عندما نتحدث عن 340 حكماً صادراً عن القاضي المنفرد الجزائي بغياب المدعى عليهن ـ هنّ في كل الأحيان العاملات المنزليات ـ من أصل 387 حكماً صادراً في شأن دعاوى رفعها أصحاب العمل عليهن في قضايا «سرقة وفرار و...»، فلا بد من السؤال عن دور الشيطان الكامن هنا: نظام الكفيل غير القانوني. هذا السؤال فرضه الغياب الفاضح لمدعى عليه، هو في غالب الأحيان ضحية، أُفرغ مكانها في مسرح المحاكمة بلا حول ولا قوة، ما انعكس في وقتٍ لاحق على العدالة التي صارت «هامشية». هنا، عندما أصبح دور القاضي بلا أهمية، عبر صناعة ما يسمى «المحاكمة الغيابية» التي تحصر النظر بالقضية في ظل عدم حضور العاملة، الطرف الأساس في النزاع.
ولكي نفهم هذه المعادلة، سنروي حكاية «آلم»، تلك الشابة التي تركت منزل صاحب عملها، بعدما فاق العنف الاحتمال. في تلك الحالة، أوقفت العاملة بناءً على شكوى من صاحب العمل ـ التي سيكون محورها في الغالب سرقة وفرار ـ بعد ذلك، حُقّق معها بـ«دوز» عالٍ من الإسقاطات. فهنا، مثلاً، ستسأل العاملة عن حياتها الشخصية: «معك تليفون؟ مين مصاحبي؟ مع مين عم تضهري؟». وفي نهاية المطاف، وبعد إجراء اتصال بالنائب العام التمييزي، ستصدر إشارة الأخير، وستترك «أمر بتّ إقامة العاملة أو ترحيلها للأمن العام». عبارة صريحة. وهنا، سيأخذ المدير العام للأمن العام القرار. وسيكون في غالب الأحيان «ترحيلها». وفي هذا الإطار، لن تكتفي النيابة العامة التمييزية بترحيل العاملة، بل ستعود وتدعي عليها لتحاكم غيابياً. وهنا، عندما يصل الملف إلى مسرح المحاكمة، لن يكون للقاضي، كقاضي حكم، دور. ففي ظل نظام الكفالة الشائن وقيام النيابة العامة بقلب الأدوار من خلال إعطاء صلاحية النظر في مصير العاملة للأمن العام، «لن يبقى للقضاء دور». وحتى عندما يصدر الحكم، سيكون منقوصاً في ظل غياب رواية العاملة نفسها، وإن صدر بالإيجاب. هذا أولاً. أما ثانياً عندما يصدر الحكم مثلاً ببراءة العاملة، أو إلزام رب العمل بتعويض العطل والضرر، فسيكون الحكم بلا قيمة، في ظل غيابها. هذه هي الخلاصة. وهي واحدة من الخلاصات التي وصلت إليها الباحثة في القانون سارة ونسا في إطار عملها على توثيق الأحكام القضائية ضمن مهمة بدأتها المفكرة القانونية من أجل «إطلاق مرصد لقضايا العاملات»، ستصدر خلاصته أواخر العام الجاري.
أول من أمس، وفي سؤال عن «ماذا يعلمنا توثيق الأحكام القضائية؟» الذي طرحته ونسا ضمن المنتدى الثاني السنوي للمفكرة القانونية، خرجت الباحثة بخلاصتين: أولاهما تهميش دور القضاء، «النابع أصلاً من داخل الجسم القضائي نفسه، وتحديداً «قضاء الادعاء»، أي النيابات العامة الذي «يفوض» إلى الأمن العام تقرير المصير. وهي الخلاصة الثانية. والمثال الأوضح على ذلك، هو عندما نتحدث عن «30 ملفاً من أصل 53، اتُّبع هذا المسار خلالها، حيث أعطى النائب العام إشارة بترك القرار للمدير العام للأمن العام قبل صدور الحكم النهائي». وهنا، قد يفيد السؤال عن دور القضاء في حماية حقوق العاملات، وهو الضالع في مكان ما بهذا الشأن.
قد يكون أبرز مثال على دور القضاء، هو الإشارة إلى أن 389 حكماً صادراً عن القضاء الجزائي خلال العام الحالي (في 387 منها، العاملة هي المدعى عليها)، صدرت غيابياً، في انعكاس لنظام الكفالة. وإن كان التبرير هنا بأن «قاضي إصدار الحكم يجد نفسه محدود الصلاحيات أمام ملف تغيب عنه بعض الحيثيات»، إلا أنه لا يمكن تبرئته جملة وتفصيلاً، فللأخير أيضاً دور هنا، وخصوصاً عندما نتحدث عن الآراء المسبقة في القضاء. فأن يكون هناك «296 حكماً متشابهاً، وهي أشبه بنموذج موحد يُملأ الاسم فيه وتاريخ ميلاد العاملة والجنسية وتاريخ صدور الحكم، وهنا يوجد نوع من عدم اكتراث:». وأكثر من ذلك «عندما نتحدث أيضاً عن 128 حكماً من أصل هذه النسبة نقرأ فيها حالة فرار، علماً بأن المواد القانونية الصادرة على أساسها الأحكام مرتبطة بالإقامة، إضافة إلى 21 حكماً آخر يشير إلى جنسية العاملة بأنها أفريقية»! ولكن، هل تقف الأمور هنا؟ بطبيعة الحال ثمة أكثر. فماذا عندما نتحدث عن اعتقال تعسفي؟ في هذا الإطار، تأخذ ونسا مثالاً عن دعويي سرقة وفرار. يومها «أصدر القاضي قرار إخلاء سبيل، مع ذلك لم ينفّذ القرار، إلا إلى حين انتهاء محاكمتها، وهنا حُوِّل توقيف العاملة من توقيف احتياطي إلى توقيف تعسفي». والأنكى، عندما تصدر أحكاماً بتعويض العاملة على صاحب العمل لمخالفتها نظام الإقامة سنداً لأحكام مادة لم تتضمن في نصها التعويض في حال ترك العمل».
ولا تقف الأمور هنا أيضاً. فأمام مجالس العمل التحكيمية، ثمة دعاوى مقامة من قبل العاملة المنزلية على رب العمل بتهمة عدم تسديد الأجور، عالقة منذ عام 2008، علماً بأنه يجب النظر إليها «بصورة العجلة، أي بظرف 6 أشهر».
حتى أمام هذه المجالس، لا مهرب من الآراء المسبقة. ففي مطالعة لمفوض الحكومة في ملف عدم تسديد الأجور، يلفت الأخير إلى أن «من مسؤولية صاحب العمل إبراز الإثباتات أنه دفع الأجر، ليعود في الوقت نفسه ويحمل العاملة مسؤولية فسخ العمل بسبب فرارها من المنزل».
مع ذلك، لا يسعنا القول إلا أن «القضاء مثلنا تماماً». ليس متشابهاً. فهناك، أحكام إيجابية أصدرها قضاة. منهم من رفض استخدام عبارة «فرار» أو اعتبارها «قرينة على قيام العاملة بسرقة». ولهذا يمكن القول إن كل الأمور «مرتبطة بشخص القاضي، حسب كيف بتتوفق العاملة»، تقول ونسا.
«أما ماذا يعلمنا توثيق الأحكام وتحليلها؟»، وهو السؤال الذي طرحته ونسا، فالجواب هو أنه «سيجعلنا نفهم مكمن المشكلة، وستكون هذه الأحكام التي سيصدر في نهاية العام كتيب بها مرآة ليرى القضاء ماذا فعل بالأرقام». وهنا التعويل على وجهة السير التي سيسلكها القضاء عندما يرى نفسه فاعلاً كل هذا. سيسأل نفسه ربما كيف سيصدر حكماً في وضع كهذا. وهذا تحدٍّ كبير، يوازي التحدي الأكبر الذي يسعى إليه الأطباء مثلاً، ومنهم علماء النفس، ودعوتهم للأخذ في الاعتبار «إسهامات العلوم في دراسة القضايا»، وهو المكان الذي انطلقت منه الدكتورة هلا كرباج، عندما طرحت أربع قضايا لتصحيح بعض المسارات. منها «المثلية الجنسية والانتحار عند عاملات المنازل وعلاج الإدمان بدل الملاحقة ومؤسسات الرعاية ودورها في الاضطرابات النفسية عند الأطفال».
قد يكون مفيداً مثلاً استفادة القضاء من الموقف العلني لمجتمع الطب النفسي عندما يتحدث عن علاقة المثلية الجنسية بالتهميش والتمييز الاجتماعي، وليس اعتبارها «شيئاً مخالفاً للطبيعة».
أما محاولات انتحار العاملات المنزليات، فليس سببه «أن الأفريقيات غالباً ما يصابون بأعراض ذهانية إثر الهجرة»، كما يبرر بعض أطباء النفس، بل سببه أن هذه الأعراض «تنشأ في الغالب من جراء التعرض للتمييز الاجتماعي والتهميش». وإن كنا نتحدث هنا مثلاً عن عاملتين تُدخلان إلى مستشفى الأمراض العقلية أسبوعياً، إلا أنه لا يجب الحكم بأنهن مجنونات، وهذا كافٍ للبناء عليه. ومن هنا «أهمية دور الطبيب بالتدقيق في ما إذا كان هناك سوء معاملة أو استغلال والتعويل عليها في بناء الأحكام». وهكذا الحال بالنسبة إلى قضايا أخرى، منها علاج الإدمان بدل الملاحقة.
وهذه قد تكون مساهمة بسيطة، ولكن أساسية، للعلم في المجال الحقوقي. تماماً كما الفنون التي بدأت تثبت فعاليتها هنا. والمثال فيلم «ليالٍ بلا نوم»، الذي طرحت من خلاله المخرجة إليان الراهب قضية المخطوفين إبان الحرب الأهلية. هذا الفيلم، الذي صرنا معه معنيين بالقضية، كما أم ماهر، مريم الصعيدي. فالفيلم المذكور استطاع فتح ثغرة، ولو بسيطة، في تلك القضية «سواء كان من خلال استعمال جزء منه كدليل أمام القانون لفتح ملف المقابر الجماعية مثلاً...»، بحسب الراهب. أما النقطة الأهم، فهي عندما يشعر طلاب حرم كلية العلوم في الجامعة اللبنانية، التي برزت في الفيلم كأحد الأمكنة المفترضة لوجود مقبرة جماعية، بأنهم يسيرون فوق الجثث «وهذا المطلوب».