العنف الذي تعرّضت له فاطمة النشار منذ ايام قليلة في طرابلس، يختصر في ملابساته قضايا كثيرة تصيب المجتمع اللبناني في الصميم، بل تعيد طرح قضية حماية النساء من «العنف الأسري» في زاويته الحقيقية، اي تحرير المجتمع اللبناني من هذا النظام، الذي يضطهده ويعوق تقدّمه. فاطمة النشار، سيدة في العقد الثالث، زوجة وام لثلاثة اولاد، حامل في شهرها الثالث. اقدم زوجها وشقيقه ووالدتهما على ضربها ضربا مبرحا في منزلها، ما استدعى نقلها إلى المستشفى الإسلامي الخيري للعلاج.

لكن مهلا، القصّة ليست على هذا المنوال، الذي بات يتعامل معه الجميع كما لو انه ظاهرة «اجتماعية» عادية، او معتادة، يمكن حلّها على نحو مصطنع عبر أحكام قانونية مشوّهة لا تُسمن ولا تغني من جوع. فنقلها الى المستشفى لانقاذ حياتها المهددة مرّ بفصول مفجعة، فهي من اسرة لا تعاني فقط العنف الذكوري، بل ايضا عنفاً لا يقل وطأة، اذ لا تحظى باي تغطية صحية دائمة، او ضمان صحي يتيح لها الوصول المجاني الى خدمات الطبابة والاستشفاء والاسعاف، لذلك تنقلت فاطمة بين مستشفيات عدّة رفضت استقبالها قبل دفع مبالغ مالية لم تكن متوافرة لديها، وهذا عنف قد لا يوازيه عنف، اذ قُتل اطفال وبالغون كثر بسببه.
اذا، فاطمة المعنّفة من اسرة فقيرة لا تحظى بغطاء صحي يقيها المخاطر، لذلك «تدخّل» الوزير فيصل كرامي، بوصفه يجسّد «زعامة» ما في طرابلس، واوعز الى المستشفى المذكور بتوفير حق فاطمة على نفقته الخاصة. وهذا فصل مكمّل للعنف الاصلي، اذ تضطر اسرة فقيرة تعاني العنف لبيع ولائها الى «الزعيم» من اجل الوصول الى حق ثابت لها بالصحّة.
ليس هذا فحسب، لندقق اكثر في تفاصيل حكايا هذا العنف، فوالد فاطمة يقول ان زوجها واسرته اعتدوا عليها لانه حاول مساعدتها، وسدد فاتورة المياه المستحقة على منزلها، بهدف اعادة المياه المقطوعة عن اولادها، الا ان اسرة الزوج على خلاف مع اسرة الزوجة. إذا صحّ ان هذا هو السبب المباشر، افلا يعني ذلك ان للعنف «الاسري» بيئة تتصل ايضا بدور الدولة ومشروعيتها ونطاق خدماتها واستهدافاتها. فالزوج لم يرقه ان يحط والد الزوجة على عينه، «فش خلقه» بالزوجة حتى كاد يقتلها، لكن هناك رواية اخرى للاسباب اكثر قسوة من كل ما سبق. تقول الزوجة ان اولادها مصابون بأمراض مختلفة، أحدهم مصاب بالتلاسيميا، ما يستدعي تأمين علاج دائم لهم، وبالتالي كلفة لا تقوى الاسرة على تحمّلها. الأمر الذي دفع الزوج إلى محاولة إجهاض زوجته والتخلص من العبء المنتظر. حديث فاطمة في هذا الشأن معبّر جدّا، فهي تقول إن أطفالها يمكن علاجهم «إذا تأمّن لهم العلاج الضروري»، بحسب ما أكد لها اطباء، وهذا ما دفعها إلى التمسك بجنينها.
هو عنف الدولة «التي لا تؤمن العلاج لاطفالها»، هذا العنف هو المحفّز الاصلي لعنف الذكورة الخبيث.
فرّ الزوج، امّا شقيقه ووالدته فلم يجرِ توقيفهما، بل جرى الاكتفاء باستجوابهما فقط. حالة فاطمة الصحية «مزرية جداً، وهي بالكاد تستطيع النطق بسبب الضرب العنيف الذي تعرّضت له»، بحسب ما أكدت لـ«الأخبار» مسؤولة الهيئة النسائية في دار الفتوى بطرابلس مهى الفوال، التي زارت فاطمة في المستشفى... والهيئة المذكورة اعتصمت تضامناً مع الضحية، بعدما كانت الهيئة نفسها قد اتخذت موقفا معترضا على مشروع قانون حماية النساء من العنف الأسري.
الا ترسم هذه التفاصيل كلّها لب القضية، قضية «العنف الاسري»، التي يجب ان لا تبقى مجرد حالات تصوّر على انها خاصة وفردية. تبرر الفوال هذا الانفصام في الموقف ضد العنف الاسري، وضد تجريمه في آونة واحدة، بأن «التجارب أثبتت أن العنف الأسري لم تنفع القوانين وحدها في الخفض من نسبته والحد من وتيرته، لذا لا بد من التركيز على الأخلاق وأدب التعامل في الرضا والخلاف»، لكنها استدركت ان المهم ليس «الاخلاق» فقط،، لذلك «هناك موافقة مبدئية من قبلنا على هذا القانون، لكننا طلبنا إدخال بعض التعديلات عليه، وهي تعديلات رفضتها جهات أخرى، وما زلنا ننتظر التوافق عليها».
هذا الجدل حول قانون العنف الأسري الذي يبرز إلى السطح عند ظهور حالات عنف أسري، دفع نقيب المحامين السابق في طرابلس خلدون نجا إلى التأكيد أنه «يجب إقرار هذا القانون، وإلا انتشرت الفوضى». وأشار إلى أن لبنان «مجتمع متعدد، وما من شيء يجمع اللبنانيين تحت سقفه سوى القانون، الذي يفترض أن يكون جامعاً وشاملاً»، مشيراً إلى أن «عدم وجود القانون يشجع على تكرار حالات العنف الأسري، ويسيء الى مجتمعنا ويشوّه صورته، سواء في طرابلس أو على مستوى لبنان كله».
وعن تحفظات بعض الجهات لأسباب دينية على إقرار القانون، أوضح نجا أن «أي دين له تفسيرات مختلفة، لكن لا يمكننا ونحن اليوم في القرن الواحد والعشرين، أن نبقى في القمقم وفي قوالب جامدة وأسرى تفسيرات الماضي»، مشيراً إلى أننا «نستطيع أن نطوّر أنفسنا ومجتمعاتنا، على قاعدة المصالح المرسلة، بما يوافق العقل والمنطق».
من جهتها، رأت رئيسة اللجنة الاجتماعية في بلدية طرابلس سميرة بغدادي، أن «تعنيف المرأة في مجتمعنا، للأسف، ليس جديداً، تحت حجج المحافظة على كرامة وشرف الرجل والأسرة»، موضحة أن «نساء كثيرات يرفضن الحديث عن تعنيف يتعرضن له، لأسباب اجتماعية بحتة، وأنه إذا صودف وتحدثت امرأة ما عن تعرضها لعنف أسري، فإنها تفعل ذلك إما بعد نقلها إلى المستشفى، أو إذا امتلكت الجرأة التي تجعلها تعلن رفضها ما يحصل معها».
وأشارت بغدادي إلى أنه «تتوافر في دول الغرب مراكز إيواء وعمل للنساء المعنفات، وهذا أمر غير موجود عندنا»، مشيرة إلى أنه «يجب إقرار قانون العنف الأسري، إضافة إلى استباق المشكلة لا الانتظار حتى وقوعها، وذلك يكون عن طريق التربية والتوعية في البيت والمدرسة والمجتمع».