أصدر قاضي التحقيق في قضية «مقتل» رلى يعقوب آلاء الخطيب، قبل يومين، قراره الظني الذي قضى بموجبه «منع المحاكمة عن زوجها المدعى عليهْ». واستند القاضي في قراره إلى «مطالعة النائب العام غسان باسيل، التي طلب فيها من قاضي التحقيق وقف التعقب بحق زوج رلى في ما أسند إليه». في التقرير الذي اتى في 13 صفحة، كان قاضي التحقيق جازماً: «رلى لم تمت من الضرب (…)».
وقال «جرت تحقيقات موسّعة من خلال تكليف أربع لجان طبية، تألفت من 16 طبيباً على نحو متتال (…) شرّحت الجثة وصوّرتها بالسكانر، وتبين لأعضاء اللجان خلو الجثمان من آثار الضرب أو الكسور». خلاصة عززها بشهادتي طفلتين هما ابنتا الفقيدة غلاديس (12 سنة) وغبريال (11 سنة)، اللتان، بحسب تقرير قاضي التحقيق، «كانتا داخل المنزل عندما توفيت والدتهما، وأكدتا في إفادتيهما أن الوالدة لم تتعرض يومها للضرب، بل كانت تهم بالدخول إلى غرفة الجلوس عندما سقطت أرضا، وقد تدخل الوالد لإنقاذها وطلب من ابنتيه أن تطلبا النجدة من الخارج (…)». ورأى القاضي الخطيب ان «هاتين الإفادتين تتطابقان مع إفادتي شاهدين كانا يمران بإزاء المنزل، إذ قالا إن الفتاة غلاديس خرجت لطلب النجدة، وكانت تردد: أسرع يا عمو، لا أدري ماذا حل بأمي». وهي الخلاصة التي أرشدت القاضي «إلى اتخاذ هذا القرار»، واعتبار أن «اتهام الجهة المدعية بالضرب بقي مجرداً من الأدلة على المستوى الطبي والواقعي، إذ ليس من علامات عنف على جسد القتيلة، ولم تتعرض للضرب في ذلك اليوم (…)».
هذا ما خرج به القاضي الاء الخطيب، بعد انتظار فترة 6 اشهر تردد خلالها كثيرا ان هناك ضغوطاً هائلة يمارسها متنفذون منذ مقتل رلى يعقوب لاقفال القضية. أعلن قاضي التحقيق قراره الظني، الذي بات معه الزوج «مغسول اليدين من دم رلى يعقوب»، يقول محامي عائلتها المدعية، ريمون يعقوب، فيما عبرت عائلة الزوج عن فرحها بالقرار، الذي عدّه محامي العائلة جورج ديب «مفخرة للقضاء».
لكن بعيدا عن مواقف طرفي القضية المباشرين، عائلة رلى وعائلة زوجها، فان القرار نفسه تعرّض لانتقادات من اختصاصيين على صعيد القانون والطب معا، بل وتعرّض للتشكيك من أعضاء في اللجنة الطبية التي أُلّفت لدراسة الملف... وهؤلاء استغربوا صدور قرار «يقيني لا ظني على الرغم من كل الشوائب».
تقول رئيسة اللجنة الطبية الدكتورة كلود سمعان لـ«الأخبار» إن «التقرير الطبي لم يستطع أن يثبت أو ينفي أن الضرب هو سبب الوفاة، كما لم يستطع تأكيد وجود أو عدم وجود تشوه خلقي أدى إلى النزف، وذلك بسبب تسلّم اللجنة الطبية المكلفة التحقيق الموضوع بعد وقت من الوفاة». وتعبّر سمعان عن قناعتها بأن ثمة شيئا ما «حتى ما يكون في جواب واضح من أول لجنة انعملت، ولنضطر نوصل إلى تشكيل لجنة رابعة». وهذا شك مشروع في جميع الأحوال. تبدأ الطبيبة من «الآخر»، تقول «للأسف الشديد عندما تسلمنا الملف لم يكن بمقدورنا التأكد إن كان النزف الحاصل لدى رلى ناتجاً عن تشوه خلقي في أحد الشرايين أم عن الضرب، ففي الطب، النزف يمكن أن يحدث بسبب شريان محدود التوسع (anevrisme) ويمكن أن يحدث بسبب الضرب، وهذا نطلق عليه مصطلح «tromatisme»، أي الصدمة، وعندما عملنا على تشريح الجثة بعد إخراجها من المدفن لم نستطع قول ما اذا كانت قد توفيت بسبب الضرب ام بسبب النزف الناتج عن التشوه الخلقي. كان صار «trop tard بعد مرور 80 يوماً على الوفاة». مع ذلك، تستطرد الطبيبة بشرح الفارق بين نزف الشريان المحدود التوسع (anevrisme) ونزف الصدمة، الذي يأتي بسبب الضرب، فتشير إلى أنه في الحالة الأولى «هناك احتمال 95% أن يحدث النزف أعلى الرأس، فيما النزف لدى رلى حصل في أسفل الرأس، عند الرقبة، حتى إن النزف في الحالة الأولى عندما يحصل ما بيعود يبين الشريان، وهذا ما لم نلاحظه، وهنا وقعنا في فرضية أن يكون بسبب الضرب، لكننا لم نستطع التأكيد أيضاً، لأن الشريان بعد هذه الفترة كان قد تحلل ولم نستطع من خلال التشريح التوصل إلى النتيجة، حتى الأطباء في فرنسا توصلوا إلى النتيجة ذاتها بعد إرسال الملف إليهم».
تدفع رئيسة اللجنة الطبية بالشك الى اقصاه، تقول «ثمة تساؤل هنا لا بد منه، وهو الوقت الطويل الذي استغرقته عملية الحصول على الإشارة القضائية لتشريح الجثة». وهنا الشك مشروع. فقضية رلى تعيد المعنيين إلى موضوع الطب الشرعي برمته. هناك من يعيد التذكير بان قاضي التحقيق، الاء الخطيب، سبق ان استند في البداية الى تقارير من اطباء شرعيين لاصدار قرار باخلاء سبيل زوج رلى من السجن، بعد عشرة أيام فقط من بدء التحقيق، وهو ما عادت ونقضته الهيئة الاتهامية في حينه. تقول الطبيبة كلود سمعان «من حقنا التشكيك في تلك النتيجة، وخصوصاً مع علمنا بأن معظم الأطباء الشرعيين ليسوا من ذوي الاختصاص، وهم في غالبيتهم معينون بمرسوم من وزير العدل».
ثمة آخرون يذهبون الى ما ذهبت اليه سمعان. وبحسب مصادر مسؤولة في نقابة الأطباء في بيروت فإن في «الأمر لغزا عجزنا عن كشفه»، إذ هناك يقين في قرارة النفس بأن «رلى ماتت قتلاً، فطبيب العائلة نفسها أسرّ لأحد الأطباء بأنه مقتنع بأن رلى ماتت بسبب العنف، لأنها كانت تتعرض للعنف من زوجها دوماً». ولهذا، ألّفت لجنتان متتاليتان، «واحدة من أطباء متخصصين من النقابة، وأخرى مشتركة ما بين نقابتي بيروت وطرابلس». في اللجنة الأولى، التي أخرجت تقريرها «استناداً إلى صور السكانر والأشعة التي أجراها الأطباء في طرابلس، الذين كشفوا على جثة رلى»، أشارت الأخيرة إلى أن «الأمر ناتج عن انفجار شريان محدود التوسع، أي شريان عنده توسع معين وعلى ضغط معين ممكن يبجّ»، هذا ما يقوله الطبيب جان الحاج، الذي كان في تلك اللجنة، التي هي الأولى في بيروت والثانية بعد التقرير الآتي من طرابلس. فلنفرض جدلاً أنه شريان محدود التوسع، فماذا عن الضغط الذي يمكن أن يفجر ذلك الشريان؟ ألا يمكن أن يحدث بسبب الضرب؟ لا ينفي الحاج أن يكون الضرب سبباً، إذ ينفجر هذا الشريان «نتيجة حصول مجهود ما، قد يكون مجهودا جنسيا أو بسبب الضرب أو الحزن أو أي شيء آخر». هذه الخلاصة للجنة الأولى لم تكن مقنعة للنقابة، التي طالبت «بتأليف لجنة ثانية، وهي التي استند إليها قرار القاضي، خرجت باعتقاد بأن ما حصل ليس anevrisme، لأنهم وجدوا أن هناك نزفاً في أسفل الدماغ، وفي 95% من حالات التشوه الخلقي يحدث النزف في أعلى الرأس، أما نزف الرقبة فيمكن أن يكون tromatisme أي صدمة تنتج عن الضرب». وفي تلك الحالة «لا يحدث النزف هنا إلا إذا انقطع الشريان هناك أو جُرح، وهذا الأمر لا يحدث إلا إذا تعرض العمود الفقري للضرب، مع ذلك لم تتوصل اللجنة إلى وجود كسر في الرقبة، لكنها طالبت بإجراء تشريح بالجهاز الطبقي الثلاثي الأبعاد للشريان، لكونه كان يفترض أن يقود إلى أسباب حدوث النزف، لكن للأسف كان الأوان قد فات والشريان تحلل». هذا ما تقوله المصادر المسؤولة في النقابة.
لكن، هل فعلاً كان الأوان قد فات ولم يعد ممكنا التوصل الى اجابة دقيقة عن سبب الوفاة؟ هناك من يشير الى ان اللجنة نفسها قد تكون تعرّضت للضغوط التي تعرّض لها القضاء، لذلك قررت ان تعيد رمي الكرة في ملعب القاضي، عبر اصدار تقرير طبي متخصص يمتنع عن تحديد الاسباب بدقة. ويتهكّم احد القانونيين المتابعين لقضية رلى يعقوب بالقول «إن العلم بات قادرا على تحديد فرضيات تفسّر موت توت عنخ آمون!»، ألا يدعو ذلك إلى الاستغراب.
ثمّة امور اخرى يتناولها القانوني المتابع، الذي رفض ذكر اسمه. يتساءل عن سبب منح المشتبه فيه قرينة البراءة المطلقة في مرحلة التحقيق، الم تكن العدالة تقضي بان يصدر القرار عن قاضي حكم لا عن قاضي ظن؟ فما حصل الآن ان القرار الظني وما استتبع به من منع المحاكمة «العادلة» في القضية حرم أهل الضحية حق الاستئناف. يقول القانوني ان الامر لا يتعلق ببراءة المشتبه فيه او ادانته، بل بالاجراءات التي يُفترض ان تتبع للوصول الى نتيجة. في هذه الحالة، يقول المحامي «إن القاضي الخطيب بقراره أغلق الطريق على إمكانية الاستئناف». وهي «سابقة خطرة». ففي القرار الظني، الذي أصدره، لم يكن كما تفترضه آلية العمل في القضاء. تلك الآلية التي نعرف أنه في مرحلة التحقيق «ليس المطلوب من القاضي البحث عن اليقين المطلق، بل البحث عن أدلة مقبولة نوعاً ما، ليخرج بعدها بقرار نسميه ظنياً، ويترك بالتالي القرار النهائي والأخير لقاضي الحكم». هذا ما يفترضه العمل القضائي. أما ما فعله الخطيب، فكان «تعدياً على عدالة القضاء نفسه، الذي يفترض في كل الأحوال أن المدعى عليه وإن كان بريئاً، فالظن يفترض إخضاعه للمحاكمة، كي ينظر في قرينة براءته، وما حصل أن القاضي ترك الظن وذهب إلى أبعد منه، ذهب إلى اليقين، ومنع المحاكمة عن المدعى عليه، قاطعاً الطريق على الباحثين عن اليقين في مكانه الأساس».
ثمة امر يتعلق «بخطأ التقاعس من قبل القاضي، الذي لا نعرف أسبابه للتأخر في تشريح الجثة، علماً أنه بديهي في التحقيقات الأولية في حال الشك بطريقة الموت»، يقول المحامي المتابع، يضاف الى ذلك ما قيل عن «الضغوط السياسية، والتقرير الطبي الذي لم يكن مقنعاً كفاية، والذي جاء ملتبساً في نتيجته، رامياً الكرة في ملعب القاضي، الذي قد يكون معرضاً للضغوط، والذي حتماً سيصل إلى نتيجة كهذه». وعطفاً على هذه الأشياء، هناك الكثير من الأسئلة المشروعة على القاضي الخطيب نفسه الاجابة عنها: لماذا لم يهتم برسم الطفلة غريسي لأمها مرمياً على الأرض وأختيها غلاديس وغابرييلا وإلى جانبهن الوالد وهو يحمل تلك العصا؟ وماذا عن طبيب الطوارئ في المستشفى الذي نقلت إليه رلى، والذي قال إنها ماتت من الضرب؟ ولماذا رفض الاستماع الى شهادتي العسكري والجارة عن موت رلى ضرباً، بحجة انهما من «الحي المسكون من كل أهلها»؟ يبدو ان قاضي التحقيق اختصر الطريق الى العدالة نيابة عن المحكمة. وكيل اهل الضحية، المحامي ريمون يعقوب، يعكف اليوم على «دراسة الملف للبحث عن طريق لنستأنف العدالة».