أغفلت «الأخبار»، بحسب متابعتي اليومية لها، على نحو لافت، أخباراً ضجت بها وسائل الإعلام الأخرى تخص سلوكيات شاذة لحزب الله في القرى الجنوبية، بينها تعرض عناصر من الحزب لأصحاب محال لبيع الكحول والتضييق عليهم لإقفال محالهم، لأسباب لا يخفى على أحد وجود نكهة إقصائية فيها لكل اختلاف في السلوك والمعتقدات، وحتماً لكلّ متمايز في الرأي السياسي. لا شأن لي في تقويم مهنية الصحيفة التي لا جدال حول استقطابها شريحة واسعة من القراء. ما يعنيني هو سياسة حزب الله في الاختباء وراء إصبعه، لدى مواجهة الاستحقاقات الاجتماعية والاقتصادية. فعندما يتعامل كثير من مسؤولي الحزب في القرى الجنوبية (العديسة مثالاً)، بشيء من العنجهية، مع مواطنيهم، ويؤدي ذلك إلى الاصطدام بهم، واعتقال بعضهم لتأديبهم بسبب إشكال فردي، فهذا ما لا يمكن السكوت عنه. ما حدث في العديسة أنّ إشكالاً فردياً وقع أمام حسينية البلدة بين مسؤول الحزب في البلدة وبعض أبنائها، تطوّر إلى تضارب بالأيدي والعصي والسكاكين.
حتى الآن، لا يزال الأمر طبيعياً، ويحدث في كل القرى والمدن، وفي أحسن العائلات كما يقال، لكن في اليوم التالي، قام عناصر من الحزب بالاقتصاص ممن شارك في الإشكال، واحتج أبناء من القرية لأنّ عناصر من الحزب اعتقلوا أحد المشاركين في الإشكال. وفي ذلك تثبيت لتهمة غالباً ما ينفيها الحزب عن نفسه، بأنّه ليس الدولة، ولا بديلاً عنها!
لكن ما حصل في العديسة، وقبله في حولا، وبعده في البازورية (بلدة السيد حسن نصر الله) لا يبشّر بالخير، لا لأنّه فعل مدان وحسب، بل لأنّ سلوكيات مماثلة عوّدتنا إيّاها ميليشيات أخرى غير حزب الله، فيما كان يبدو الحزب منضبطاً على نحو مخيف في سلوكه الاجتماعي والأمني مع الناس، فلازمة «لا عناصر غير منضبطين في حزب الله» لا تزال طنّانة في آذان اللبنانيين. وقد عودنا الحزب أنّه ليس في قاموسه «سلوك فردي» لعناصره، فتركيبته الأيديولوجية والحزبية تمنع أي خطأ أو تماد في ذلك المجال، وإذا حصل الخطأ والتمادي، تتكفل أجهزة المحاسبة في الحزب بتقويم ولجم الخطأ والتمادي.
لكن هذا ما لم يحصل في حولا مثلاً، عندما هاجم عناصر من الحزب محل الرجل الوحيد الذي يبيع الكحول في القرية، لإرغامه على الإقفال. سارع مسؤولون في الحزب عند سؤالهم، إلى إنكار علاقة حزبهم بما حدث، وعلّقوا المسؤولية فوراً على شمّاعة «الأهالي». إشكال حولا ذاك، الذي أغفلت ذكره «الأخبار»، ذكرته جريدة «السفير» بشيء من التورية الواضحة، فهي إذ ذكرت انتقال «مسلسل منع المشروبات الروحية إلى حولا»، أكدت وقوع «إشكال في بلدة حولا، في قضاء مرجعيون بين مالك محل لبيع المشروبات (و. خ.)، وعناصر حزبيين دخلوا إلى المحل (عناصر من حزب الله) وطلبوا من (خ) إقفاله، فلما لم يمتثل الأخير لطلبهم حصل عراك وتضارب بالأيدي داخل المحل، بين العناصر وصاحبه، الذي جرت نجدته من عناصر من حزب آخر (حركة أمل)، ما أدى إلى إصابة شخصين بكدمات وأضرار مادية في المحل. وأعقبت ذلك حالة من التوتر في البلدة بين تنظيمين حزبيين (حزب الله والحزب الشيوعي اللبناني)، ما دفع الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي إلى الدخول إلى البلدة، والعمل على حلّ الإشكال وتسيير دوريات داخل البلدة وعلى طريقها وفتح تحقيق في ما جرى».
ما ذكرته «السفير» مواربة عن حولا، عرضته بوضوح عن إشكال في البازورية، (الخبر غيبته «الأخبار» تماماً). لنقرأ معاً خبر «السفير» (17/8/2011): «أقدم مجهولون قبل أيام على تهديد المدعو أ. ش. وهو صاحب محل لبيع المشروبات الروحية في بلدة البازورية في قضاء صور، بواسطة بيان موقع باسم «أنصار المهدي»، ما دفع الأخير إلى إقفال محله، بعد تحذيره بإحراق محتوياته والتعرض له شخصياً. وقال مقربون من أ. ش.: «إنّ الحادثة جاءت بعد سلسلة من المضايقات، كانت قد بدأت قبل أكثر من سنة، عندما أنذر أحد رجال الدين في البلدة ويدعى ر. ح، صاحب المحل بضرورة التوقف عن بيع المشروبات الروحية، التي يمتلك أ. ش. ترخيصاً رسمياً ببيعها». وعندما لم يمتثل صاحب المحل ويوقف مزاولة عمله، انطلاقاً من كونه يملك ترخيصاً رسمياً من ناحية، ومن عدم صلاحية الجهة التي حذّرته، قصد رجل الدين المذكور قبل مدة قصيرة صاحب المحل برفقة شاب آخر، طالباً منه التوقف عن بيع المشروبات. وبعد أيام على الحادثة، وُضع البيان التحذيري، الذي وقعته جهة تطلق على نفسها اسم «أنصار المهدي»، أمام باب المحل.
وأوضح المقربون أنّهم راجعوا حزب الله في الموضوع، على اعتبار أنّ رجل الدين ر. ح. مقرب من الحزب، فما كان من الأخير إلا أن «أعلن عدم علاقة الحزب بالقضية، لا من قريب ولا من بعيد، وعدم ارتباط رجل الدين المذكور بالحزب»، مشيراً إلى «أنّ تصرفه شخصي».
«التصرف الشخصي» هو التعبير الآخر عن مصطلح «الأهالي»، الذين سبق لحزب الله أن استخدمهم في «بوز المدفع»، عندما أراد تصفية حساباته مع قوات اليونيفيل في جنوب لبنان. ذلك الانطباع هو حقيقة في أذهان الجميع، أهالٍ ومتابعين ومراقبين، وهو يستخدمهم اليوم لحرق الإطارات في القرى الجنوبية الغاضبة من انقطاع الكهرباء، كنوع من تنفيس الغضب الذي يزداد لدى «الأهالي» على الحكومة التي أتى بها حزب الله، وتبيّن أنّها لا تختلف كثيراً عن سابقاتها، لجهة إغفال الهمّ المعيشي للناس، لكنّ الحزب إذ يستخدم جمهوره حجة يعلّق عليها أخطاءه ومناوراته السياسية والاجتماعية، يغفل عن حقيقة أنّ هؤلاء «الأهالي»، أو بعضهم على الأقل، يمكنهم أن يتململوا من الواقع الذي يعيشون فيه، وخصوصاً مع ضيق أفق الحريات الفردية في الجنوب، وتحوّل بعض مسؤولي الحزب أو المحسوبين عليه والمتمتعين بسلطته وسلطانه، في بعض القرى، إلى مطاوعين على الطريقة السعودية، ينهون الناس عن المنكر، ويأمرونهم بالمعروف، في تطبيق صارم لقواعد الحزب الثقافية والاجتماعية والأيديولوجية، مع مجتمع لم يتحوّل إلى مجتمع يطبق الشريعة الإسلامية، غير آبه بالقوانين المرعية الإجراء في لبنان.
في سلوك الحزب ما يذكّر برواية جورج أورويل «1984» عن «الأخ الأكبر» الذي يسيطر على جميع تفاصيل حياة الناس، الذين يعيشون تحت المراقبة المستمرة طيلة حياتهم، ويتحكم في مشاعرهم، ويوجّه تصرفاتهم، لكن حزب الله يصطدم أخيراً بنفسه ومجتمعه، في محاكاة صارخة لقول فريديريك نيتشه، «في الأحوال السلمية ينقضّ الإنسان المحارب على نفسه»، ويُخشى عليه ومنه، أن يتحوّل بذلك إلى نموذج آخر لحركات أخرى دخلت في بازار «تربية» الناس، وخرجت منه بدرس لا يُنسى، لقّنها الناس إيّاه.
* صحافي لبناني