في لبنان، وعلى الرغم من عدم وجود احصاءات دقيقة حول نسب زواج القاصرات، الا انه ليس خافيا على احد مدى انتشار هذه الظاهرة التي تعززت مع النزوح السوري. الامر الذي دفع بهيئات من المجتمع المدني الى اثارة هذه الظاهرة والمطالبة بالحد منها. فبعد اطلاق «الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية»، بالتعاون مع «معهد الدراسات النسائية في العالم العربي في الجامعة اللبنانية الأميركية»، الحملة الوطنية لحماية القاصرات من الزواج المبكر الثلاثاء الماضي، نظمّت «الدولية للمعلومات» حلقة حوار تحت عنوان «زواج القاصرات بين الشرع والقانون»، أول من أمس.
ليس في القوانين اللبنانية سن معينّة تحدد «أهلية» الفتاة للزواج، وخصوصًا في ظل عدم وجود مفهوم موحد بين سن الرشد القانونية المطبقة بحسب القوانين المدنية، وسن الزواج المطبقة بحسب قوانين الاحوال الشخصية، ففيما القوانين اللبنانية تقرّ بعدم أهلية كل فتاة دون الـ18 عاما لالتزام العقود (قانون موجبات وعقود) او للترشح والانتخاب (قانون الانتخاب) او حتى قيادة السيارة (قانون السير)، ما من قانون يحدد سنا معينة لزواج الفتاة، الامر الذي يبرز تناقضا لدى المشترع اللبناني، فكيف يعد كل فتاة دون الـ18«قاصرا»، لكنها «أهل» لانشاء أسرة؟! من هنا يسأل أمين سرّ الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية فادي كرم «لماذا يتغاضى المشترع عن زواج القاصر التي لم تبلغ سن الـ18، ولا يقوم بواجب حمايتها؟». ويرى أن «انكفاء الدولة عن واجب حماية القاصرات من الزواج المبكر يمثل مخالفة الدولة لدستورها وللمواثيق الدولية المبرمة من قبلها». في اشارة الى ان الدستور التزم حماية المواطنين والمجتمع، كما ان الدولة اللبنانية وقعت الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل، التي رأت ان كل شخص لم يبلغ الـ18 عاما يسمى طفلًا، فضلا عن توقيعه معاهدة منع الاتجار بالبشر.
تشير مديرة منظمة «كفى عنف واستغلال» زويا روحانا الى انه «من الممكن تصنيف الكثير من حالات الزواج المبكر كحالات الاتجار بالاشخاص»، استنادًا الى المادة 586 من قانون معاقبة جريمة الاتجار بالاشخاص، الذي أقره مجلس النواب اللبناني عام 2011، فهذه المادة تعرّف الاتجار بالبشر بانه يجري عبر اجتذاب شخص او نقله او استقباله او احتجازه او ايجاد مأوى له، اما بواسطة التهديد بالقوة او استعمالها، واما بهدف استغلاله او تسهيل استغلاله من الآخرين، الا ان اللافت ان الفقرة التالية من المادة نصت على اعتبار ان «اجتذاب المجني عليه او نقله او استقباله او احتجازه او تقديم المأوى له لغرض الاستغلال بالنسبة إلى من هم دون سن الثامنة عشرة، اتجاراً بالاشخاص حتى إذا لم يترافق ذلك مع استعمال اي من الوسائل المذكورة اعلاه (التهديد بالقوة او استغلاله..)».
وطالما ان هناك العديد من المراجع التي يمكن من خلالها مكافحة ظاهرة تزويج القاصرات (قانون معاقبة جريمة الاتجار بالاشخاص والاتفاقيات الدولية لحقوق الطفل وغيرها)، لماذا لا تزال القوانين اللبنانية تعطي الغطاء الشرعي لحالات الزواج المبكر؟
تقول المحامية العامة الاستئنافية في جبل لبنان القاضية، ارليت تابت، «ان موضوع حماية القاصرات من الزواج المبكر هو موضوع شائك، نظرًا إلى طبيعة النظام الطائفي في لبنان، ونظرًا إلى الاختلاف الكبير في تحديد سن الزواج بين الطوائف والمذاهب، وعدم وجود رقابة موحدة من اي سلطة على هذا الامر»، وتضيف إن «الاختلاف الحاصل هو نتيجة تعدد قوانين الاحوال الشخصية والتشابك في تطبيقها وتنفيذها، وخصوصًا عند وجود اختلاف في الدين بين الزوجين». من هنا كان تأكيد رئيسة الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية وفاء ميشال سليمان على «العمل لسن القوانين المناسبة المتعلّقة بالحد الأدنى لسن الزواج آخذين في الاعتبار، تعقيدات هذا الامر في لبنان نتيجة خصوصية تنوعه الطائفي».
واذا كان زواج القاصرات مرتبطا على نحو اساسي، بالتركيبة الذهنية التقليدية القائمة على «إباحة» زواج القاصر نظرا إلى عدم توافر موانع» دينية. فان الحل الابرز لـ «تفتيت» هذه الذهنية هو خلق ضوابط دينية تنظم وتناقش هذه الظاهرة. من هنا كانت حلقة الحوار التي نظمتها «الدولية للمعلومات»، التي شارك فيها القاضي المتقاعد في المحكمة السنية الشرعية الشيخ مهدي شلق، والمدبر الاول والنائب العام في الرهبانية الباسلية المخلصية الاب عبدو رعد، والشيخ يوسف سبيتي من المكتب الشرعي لسماحة السيد محمد حسين فضل الله.
اللافت في تلك الحلقة، ان ايا من رجال الدين لم ير مانعاً في تحديد سن الزواج بـ18 عاما، وانهم جميعا ناقشوا عدم صوابية زواج القاصر وعدم أهليتها لتكون مسؤولة عن اهم منظومة اجتماعية وهي الاسرة. مستندين الى ان الزواج غير محدد بسن معينة، وهو مرتبط بالعرف السائد في المجتمعات، وبالتالي، فان تزويج الفتيات القاصرات الذي كان يجري في السابق لا ينطبق على العرف الحالي، الذي يقر بعدم أهلية القاصر للاقدام على خطوة الزواج من الناحية الاجتماعية والنفسية، فضلا عن الناحية الصحية التي تغيرت ايضا بفعل مرور الزمن. آراء رجال الدين الثلاثة فاجأت الحضور، ذلك ان رجال الدين «متهمون» بعرقلة اقرار قوانين مدنية ليس آخرها اقرار الزواج المدني، الامر الذي دفعهم الى التساؤل عن سبب عدم «جهرهم» بهذه الآراء، فما كان من رجال الدين الثلاثة الا ان أجمعوا على «استنسابية» الاعلام الذي يحبّذ التطرف فيلجأ الى رجال الدين المتعصبين ليسلّط الضوء على آرائهم، لكن احد الحضور لفت الى وجود قنوات غير مسيسة يمكن لرجال الدين «المعتدلين» التعبير عن آرائهم من خلالها، وبالتالي فانهم، في رأيه، غير «معفيين» من المسؤولية.
الا ان هذا النقاش يطرح تساؤلًا كبيرا عن الجهة المسؤولة عن عرقلة العديد من القرارات التي تستلزم قوانين مدنية تحكمها ليس أولها حماية القاصرات من الزواج المبكر وبالطبع لن يكون آخرها.. فالعرقلة لا تأتي من رجال الدين فحسب، اذ إن نائبة رئيسة الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية رنده نبيه بري فاجأت حضور حفل اطلاق «الحملة الوطنية لحماية القاصرات من الزواج المبكر» بموقف يرفض تجريم اغتصاب الزوج لزوجته.