قد يكون من المبكر الحديث عن نُضج حركة مدنية مستقلة لمقاربة قضايا المرأة والأحوال الشخصية. إلّا أنّ ثمة إدراكاً متنامياً بأن العنف ضد المرأة لا يهزها وحدها، بل يهز كل مرتكزات المجتمع اللبناني. لذا كان «بديهياً» للآلاف أن ينزلوا إلى الشارع في يومها العالمي. خرجوا وخرجن كي لا يكونوا ويكنّ شهود زور على ضرب نساء حتى القتل. فجأة، باتوا وبتن جميعاً رولا يعقوب ومنال عاصي وكريستال أبو شقرا وفاطمة بكّور ولطيفة قصير ومالكة وآديل وبغداد وبثينة ومنى وصونيا ونيليان وآمنة.
وحده التعاطف مع الضحايا جمعهم وجمعهن في تظاهرة واحدة. تجاوز الشارع أطر الجمعيات النسائية التقليدية والحواجز الطائفية والمذهبية. كان المشهد شبيها بتظاهرات هيئة التنسيق النقابية.
على درج المتحف الوطني كان اللقاء، بعد ظهر أول من أمس. لم تلبث فرقة «زقاق» المسرحية أن شدت منذ البداية الأنظار إلى مسرحيتها «ناس بسمنة وناس بزيت». العرض كان عن زواج/جناز استخدم الأمثال الشعبية مثل «سترة المرأة جازتها» ليدين الصور والسلوكيّات النمطيّة المتعلّقة بالمرأة وليسلّط الضوء على آلاف النساء اللّواتي لا يمكنهنّ الاستعانة بأي قانون لحمايتهنّ من الاستغلال والعنف الأسري. تسائل المسرحية التمييز في مجتمعنا، وخصوصاً ضد النساء، مستندة إلى شهادات عدد من ضحايا العنف الذكوري.
بعدها، سار موكب المتظاهرين باتجاه قصر العدل. من مشى في الموكب، استطاع أن يلمح على وجوه كثيرين وكثيرات مزيجاً من الشعور بالغضب والفرح. الغضب تجلى في الصراخ بأعلى صوت: «عالشارع نحنا جينا بدنا قانون يحمينا، يا طبيب قول الحق انت شرعي ولا لأ، يا قاضي يا منحاز بدنا نحبس كرم الباز (زوج رولا يعقوب)، يا مجلس يا أصم رح بتهزك صرخة أم». اللافتات ارتفعت للقول إنّ «المرأة رفيقة درب لا رفيقة ضرب»، و«ضرب الحبيب مش زبيب»، «ومجلس النواب معفن والنساء عم تتكفن».
بين الجموع، يتسلل أطفال كثر حرص الآباء والأمهات على اصطحابهم/ن. هنا اصطحاب الأولاد مسموح ربما لبناء شخصياتهم/ن وتعريضهم/ن لمناخ يدعو للتفكير والدفاع عن حقوقهم/ن. يرفع صغيرٌ لافتته الخاصة «لما أكبر رح كون رجال وما رح اضرب مرتي». وبجانبه صغيرة كتبت لافتتها هي الأخرى «حب النساء لا تعنيفهن». طنجرة الضغط التي قتلت بها منال عاصي في الطريق الجديدة حضرت أيضاً مذيلة بعبارة: الاستعمال: للطبخ فقط.
وعلى مقربة من العدلية، قالت مديرة منظمة كفى زويا روحانا: «جئنا لنقول للسياسيين إن الناس ليسوا سائلين عنكم، وخصوصاً أنّ الجرائم في الأشهر الأخيرة لم تهزّ ضمائركم، أتوا جميعهم ليعبروا عن تضامنهم مع عذابات النساء ضد تجاهلكم قضاياهن. زمن الاستكانة قد ولى، المسيرة لن تتوقف، سنرفع الصوت ضد كل الجرائم، بما فيها الاغتصاب الزوجي».
في المقابل، انتاب الفرح الكثيرين، وبدا أنّه نابع من اكتشاف أن «صوتنا لازم يعمل شي»، بدليل «حضور فاق التوقع، وحماسة ذكور تعادل حماسة الإناث»، كما راح البعض يقول. حضروا/ن إلى المكان؛ لأنّ عنوان التظاهرة حرّكهم/هن بصورة خاصة. شيراز مجلّي قالت إنها لا تشارك في تظاهرات لا طائل منها، لكنني «هنا شعرت بأنني في تحرك مختلف». لم تقو سهى طراف على الجلوس في منزلها في الشمال في هذا اليوم بالذات «ما عم بسأل حالي ليه عم بشارك، بديهي إنو كون هون على الأرض عم بصرخ ضد اللي عم بصير».
لا بد أن يستوقف المشارك أيضاً حضور كتلة مدنية شبابية وطلابية واسعة انتفضت بالأمس لمحاربة العنف ضد المرأة، فيما الرهان أن تكبر كرة الثلج لتنتفض في الغد القريب لقضايا حقوقية وعدلية ومطلبية اجتماعية واقتصادية أخرى.
الحضور لم يكن فقط من المتعاطفين/ات، بل ثمة منهم مَن هم معنيون/ات بصورة مباشرة بعنوان التحرك. قد تكون سميرة حميدو من بين الحالات النادرة التي جمعت في قصتها بين التعنيف وحرمانها إعطاء الجنسية لأولادها بسبب زواجها بأجنبي. تشرح السيدة المعنفة كيف شعرت بالحرقة في اللحظة التي أخلى فيها القاضي سبيل زوجها، وكانت يومها حاملاً وتنزف في المستشفى من شدة ضربه لها. ليس أقل حرقة، كما تقول، أن «أعلق عشر سنوات على ذمته هو في بلد وأنا في بلد آخر، بسبب قانون قديم معفن للأحوال الشخصية».
«حرماننا إعطاءنا الجنسية لأولادنا أعنف من الضرب»، هذا ما تقوله إيمان مهدي، وهي تروي حكاية الذل الذي تتعرض له في كل مرة تريد أن ترى ابنها من زوجها الأجنبي «لأنو بس بدو يزورني ما بيعطوه فيزا بسهولة ولازم افتح حساب بمليون ونصف مليون ليرة لأثبت أنني أستطيع أن أصرف عليه».
اللافت إشارة إيمان إلى أهمية الالتفاتة إلى شيطان التفاصيل عند إقرار أي قانون لحماية المرأة. تتمسك مريام فرحات بإقرار قانون «حماية النساء من العنف الأسري»، يقيناً منها بأنّه سيضمن أن يأخذ المجرم عقوبته. تتدخل أخرى: «أكيد القانون ضروري، وأنا أسأل لماذا لا تذهب المرأة إلى المستشفى؟ لماذا يقولون لها اذهبي إلى طبيب شرعي؟ شو ما في حكيم يشوفها؟».
يعتقد شربل صموئيل عون الذي حضر مع كل أفراد أسرته أنّ «القانون إذا طبق سيكون سلاحاً للمرأة والمجتمع. وهو مثل إشارة السير؛ إذ لا نستطيع أن نعتمد على سلوكيات الناس، وإلا فسننتظر وقتاً طويلاً. ثمة صوت مدني يقول: كفى». يلفت باسل صالح إلى أنّ «قانون حماية المرأة من العنف الأسري لا يستطيع أن يكون مجتزأً ومفصولاً عن قوانين أخرى. هناك حاجة لمساواة شاملة بين الجنسين في كل قوانين الأحوال الشخصية كي نستطيع أن نقول إننا في دولة القانون».
المشكلة ليست في القوانين فحسب، بل في تغيير ذهنية المجتمع الذكوري في عقول الرجال والنساء على حد سواء، تقول المحامية فداء عبد الفتاح. برأيها، إقرار القانون وتطبيقه مفصل أساسي للمحاسبة على الجريمة، وإن كان لا يمنع هذه الجريمة. لكن فداء لا تستطيع أن تفهم كيف يمكن امرأة متحررة ومثقفة أن تصرّ عند دخولها عتبة المحاكم الشرعية على أن واجب الإنفاق يقع على الرجل. تقول إنّ الحل يبدأ من تربية المرأة في المنازل والمدارس على أنّها كيان مستقل مثلها مثل الرجل، وليست مجبرة على أن تلحقه أو أن تكون تحت رعايته. تطمح فداء إلى أن ترفع الحركة المدنية شعار الإنسان الذي ينتزع مكانه انتزاعاً، ولا سيما في مواقع السلطة، متمنية أن نصل إلى زمن «تكون فيه التظاهرات على قضايا اقتصادية ومسائل فساد خارج تاء المربوطة ونون النسوة».
هذا لا يعني أن المرأة ليست بحاجة إلى مساندة الرجل، فالنساء قويات إذا كن مستقلات، تقول نيكول خوري، ويصبحن قويات مرتين بعد دعم أزواجهن.