لا يختلف كلسون عن كلسون. فالقضاء بالمرصاد لكل كاشف عن ملابسه الداخلية. والتهمة جاهزة: الإخلال بالآداب العامة، من دون الأخذ بالاعتبار أن الفاعل لم يُظهر «عورته»، والأهم أنه يستعمل حقه بالتعبير بالوسائل «المشروعة». لقد أعاد كلسون ميلاد بو ملهب، الذي ظهر في ساحة رياض الصلح منذ أيام، إلى الذاكرة كلسون مقدّم البرامج الساخر إدمون حدّاد الذي حُكم ابتدائياً عليه بالسجن شهراً وغرامة قدرها ٢٠٠ ألف ليرة بتهمة «خدش الحياء العام»، حيث وصف القاضي فعله بـ«الخروج عن المألوف». في لبنان، حتى الخروج عن المألوف في التعبير الحر بات محرّماً. ثمّ بُرئ في محكمة الاستئناف لاعتبار فعله ضمن الحرية المسموح بها في عمله المسرحي. الاسم: ميلاد بو ملهب. العمر: ٤٥ عاماً. مكان الإقامة: قب الياس. الجريمة: ضُبط متلبّساً بـ«كلسون». جاء بو ملهب من تلك المدينة البقاعية للتعبير عن رأيه، وعن الظلم الذي يعيشه. اختار الرجل وسيلة لإيصال الرسالة التي أراد قولها عبر خلع ملابسه ما عدا سرواله الداخلي.
يوم الأربعاء الماضي خلال موجة الاعتصامات النسوية والعمّالية ضد مجلس النواب في ساحة رياض الصلح، وقف بو ملهب مرتدياً سرواله الداخلي حاملاً لافتة كتب عليها تساؤلاته. «أنا إنسان؟ أنا لبناني؟ أنا رجل؟ أنا حمار.. أنا حمار». منظر الرجل بلحيته الطويلة وشعره الكث، قد يوحيان أنه «مش طبيعي». صرخ: «اللي ما معاجبها زوجها تطلقوا… اللي ما معاجبو شغلو يتركو». من يعتقد أن الرجل مختل، فهو مخطئ. فأبو ملهب كان تلميذ ضابط لعامين منذ عام 1990، قبل أن يترك السلك العسكري ويهاجر. كذلك درس الكهنوت لمدة عامين قبل أن يترك الدروس الدينية أيضاً بعد اكتشافه أن «العلاقة مع الله لا تكون عبر رجال الدين»، بحسب ما يقول لـ«الأخبار».
في رياض الصلح مارس بو ملهب حقه الطبيعي في بلد عرّى أبناءه من أبسط حقوقهم. ترك عائلته في قب الياس، متوقعاً أن يعود إليهم في الليلة نفسها. لكن شاءت القاضية رندة يقظان عكس ذلك. فبعدما أقدم الرجل على «فعلته» أمام السرايا الحكومية، اعتقلته القوى الأمنية. نقل إلى مخفر البرج القريب من المكان. لم توجه إليه أي تهمة. بقي في النظارة لثلاث ساعات. ثم أخبره أحد العناصر أنه أوقف بإشارة من «الريّسة يقظان»، يقول لـ«الأخبار».
في الغرفة رقم 1433، في مستشفى بيروت الحكومي يتحدث بو ملهب عن الظلم الذي لحق به. لكن، كيف وصل والد 5 أطفال إلى المستشفى؟ «أكلت لمبة»، يقولها ببساطة شديدة. يروي بو ملهب قصته. في النظارة منع من الاتصال بعائلته لإبلاغهم أنه «تم توقيفي، صرخت مطالباً بحقي الطبيعي لم يجبني أحد». بعدما أكل «اللمبة»، طلب الرجل من عناصر قوى الأمن نقله إلى المستشفى. يقول: «اتصلوا بالريّسة أخبروها ما فعلت. فقررت إخلاء سبيلي بعد توقيعي سند إقامة». ترك بو ملهب أمام باب السجن، لم ينقل إلى أي مستشفى. اتصل الرجل بالصليب الأحمر لنقله. «ما كان معي مصاري، كان معي 50 ألف أخدوها ع باب المستشفى»، يقول. لكن كيف ستعود إلى قب الياس؟ «أرسلوا لي 10 دولارات تكفيني لأصل». حالياً، يعمل بو ملهب في هندسة الديكور الداخلي، مع العلم أنه حاصل على إجازة هندسة كومبيوتر. يعتبر اعتقاله إهانة شخصية. ويقول إن «يقظان أهانتني عندما قيدت حريتي لثماني ساعات، ولو لم آكل اللمبة لما أطلقت سراحي».
في مستشفى بيروت الحكومي يحتفظ بعض الممرضون على هواتفهم بصورة بو ملهب وهو في سرواله الداخلي. يضحكون عندما يتذكرون ماذا فعل. بالنسبة إلى الرجل الأربعيني، أراد إيصال رسالة واضحة. يقول: «اللذان خطبا بالمعتصمين (إشارة إلى نقيب المعلمين في المدارس الخاصة نعمة محفوظ ورئيس هيئة التنسيق النقابية حنا غريب) يوم الأربعاء يملكان ضماناً اجتماعياً، ولديهما معاش ثابت، وبرغم من ذلك لا يكفيهما معاشهما لنصف الشهر، فماذا أقول أنا الذي لا أملك شيئاً؟». يضيف: «لذلك، قررت العودة كما خلقتني يا ربي، عارياً». لبو ملهب نظرته الخاصة للأشياء. هو مع حقوق المرأة «لكن ضد جمعية كفى التي تتاجر بحقوق المرأة، أنا مع حقوق المرأة أن تعيش عزباء، لكن لست مع حقوقها وهي في بيت زوجها». يشرح فلسفته: «إذا كان زوجك بيقبض 100 ألف ما ضروري تصرفي بـ500 ألف وتقولي ما عم يعطيني حقوقي». بالنسبة إليه، حلّ الأزمة المالية في لبنان يجب أن يكون بخفض معاشات موظفي الفئات الأولى والثانية والثالثة، أي «لا داعي لأن يكون راتب رئيس الجمهورية 18 مليون ليرة لبنانية، فليقبض مليوناً ونصف مليون، وإذا لم يعجبه ذلك فليرحل، كذلك الأمر بالنسبة إلى باقي السياسيين والمسؤولين».
أمس، خلال مؤتمر صحافي لموظفي مستشفى بيروت الحكومي، دخل بو ملهب عليهم. كان المؤتمر مخصصاً للمطالبة بزيادة رواتب موظفي المستشفى. وقف الرجل بين الحاضرين، وقال: «كلمتين بس ما تخافوا، لو كان رفيق الحريري بعده عايش لهدّم المستشفى على راسكم». قال بو ملهب كلمته ومشى.
بعيداً عن حلوله التبسيطية وسخطه وحريته في التعبير عبر التعرّي في ساحة رياض الصلح، فإن بو ملهب نحّال. يملك 150 قفير نحل في قريته. حاول الرجل الحصول على قرض، كي يحول قطعة أرض يملكها إلى ملعب كرة قدم. لكن طلبه رفض «لأنني لا أملك مدخولاً ثابتاً»، يقول. في الحديقة أمام منزله دفن بو ملهب والدته؛ فهو لا يريد رجل دين أن يصلي عليها؛ فـ«صلاته لن تعيدها إلى الحياة»، ويضيف: «كذلك إن مشاركتهم في الجناز فقط لأخذ المال». على هاتفه تسجيل لعملية الدفن، يصلح الفيديو ليكون مشهداً في فيلم درامي؛ إذ دفن الرجل والدته بيديه في حديقة منزله التي غطاها الثلج. يقول: «هيك بتضل امي حدي، بسلم عليها الصبح وعشية».
ترك بو ملهب أمس مستشفى بيروت الحكومي، ليعود إلى أهله في قب الياس. ربما أول ما سيفعله الرجل هو زيارة قبر أمه، ليخبرها ماذا فعلت القاضية رندة يقظان بابنها «المشاكس» في بيروت.