مذ قرّر رعاية الاستحقاق الرئاسي، حدّد البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي حدود الدور الذي يضطلع به. على اثر تمديد مجلس النواب ولايته في 31 ايار 2013 حتى 20 تشرين الثاني المقبل، انقطع التواصل بين الاحزاب المسيحية الرئيسية الاربعة، الكتائب والقوات اللبنانية والمردة والتيار الوطني الحرّ، بعدما اخفقت في التفاهم لاشهر خلت على قانون جديد للانتخاب. تسابقت على طرح مسودات قوانين انتخاب توخّى بعضها تقويض البعض الآخر، واصطدمت في نهاية المطاف بكل من التصلّبين السنّي والشيعي. منذ مطلع السنة، أُسديت الى بكركي نصائح بضرورة وصل ما انقطع بين الاحزاب الاربعة وزعمائها خصوصاً، والدخول من ثمّ في الحوار في ما بينها على أبواب استحقاقات شتى. أصغى البطريرك الى زواره يحضّونه على معاودة تحركه. ردّ فعله ان طالب سائليه باقتراحات ومسودات تتناول ما يفصحون عنه، والمسار الذي يقتضي ان يسلكه الحوار الماروني ــــ الماروني. امتحنت بكركي بداية قدرتها على جمع الزعماء الاربعة للتحاور المباشر مرة تلو اخرى، ثم تحققت من صعوبة الخطوة بذرائع شتى لهؤلاء، من بينها العامل الامني الذي يقيّد تنقّلهم، فاستعيض عنهم بمندوبي احزابهم.

بعدما تجمّع لدى دوائر بكركي كمّ من اوراق عمل افراد واحزاب وهيئات بعضها منتم الى تجمعات ولقاءات مسيحية انبثقت من قوى 8 و14 آذار على السواء، واجتمعت في مناسبات مختلفة لمناقشة الوضع المسيحي، عقدت بضعة لقاءات برئاسة المطران سمير مظلوم ضمت مندوبي الاحزاب وشخصيات مثقفة ومعنية بالشأن العام استرجعوا الاطار السابق للحوار. عملوا أيضاً في ثلاثة اجتماعات متتالية على جوجلة اوراق العمل تلك، املاً في التوصل الى صيغة تفاهم جامعة يتوافق عليها الافرقاء المسيحيون، الحاضرون في بكركي وخارجها. عندما اقترب اوان الاستحقاق الرئاسي وتحوّل اولوية تقدمت ما عداها، ابصرت «اللجنة السياسية» النور وعُهِد اليها في مناقشته وسبل ولوجه بعدما اوحى الزعماء الاربعة عن رغبة ضمنية تارة وعلنية طوراً في خوضه.
في ظنّ بكركي ان اجتياز الاستحقاق، ايا تكن نتائجه والرئيس المقبل، يقتضي ان يقود الى استمرار الاجتماعات تلك نظرا الى وطأة الملفات التي تفرّق بين الزعماء الموارنة اكثر مما تجمع.
عند هذا الحدّ استقرت مهمة الاجتماعات التي انعقدت برئاسة المطران مظلوم في المركز الماروني للتوثيق والابحاث في زوق مكايل، ما خلا الاخير الخميس الماضي في مطرانية بيروت للموارنة. بيد ان الدور الذي ناطه البطريرك بنفسه بدا أكثر وضوحاً بتحديده خياراته من انتخابات الرئاسة:
1 ـــ لا يقارب البطريرك موقعه حيال الاستحقاق كأنه زعيم سياسي كي يتدخل في تفاصيله. بل يتوخى من خلال موقعه الراعوي تقريب الزعماء الاربعة، في مرحلة اولى، بعضهم من بعض كي يتفاهموا على اطر تنافسهم السياسي، من غير ان يتحوّل هذا التنافس ــــ وهو في الواقع انقسام ــــ عبئاً عليهم وعلى الطائفة والوطن. يقرّ بضرورة مصالحتهم، وقد نجح في جمعهم الى طاولة واحدة اكثر من مرة، ويعوّل على تسليمهم ببكركي نطاقاً رحباً من اجل تنظيم خلافاتهم السياسية والتقائهم في كنيستهم الواحدة.
2 ـــ لا مرشح له لانتخابات الرئاسة، ولا يفاضل في ما بين المرشحين، ولا يريد التحوّل طرفاً فيها. وهو بذلك يرفض تكرار ما حُمِل عليه سلفه البطريرك مار نصرالله بطرس صفير تحت وطأة تدخّل اميركي عام 1988 وآخر فرنسي عام 2007 بوضع لائحتين بأسماء مرشحين محتملين للرئاسة، يصير الى اختيار احدهم. حينذاك، في المرتين على التوالي، لم يُصغَ الى صفير ولم تُحترم ارادته، وذهبت اللائحتان اللتان اغرقتا بكركي في مستنقع المرشحين وتنافسهم ومعايير المفاضلة في ما بينهم في المهب.
بعض مَن تحدّث اليه سمع الراعي يقول: ليس انا مَن يختار رئيس الجمهورية، وليس ذلك دوري. ليس من واجباتي قيادة معركة كهذه.
3 ـــ رغم انفتاحه على المرشحين والافرقاء المسيحيين الآخرين، يتوقف البطريرك عند مواصفات الرئيس المقبل والمهمات المنوطة به التي حددها مرارا. ادرجها تحت عبارة «استعادة الدور المسيحي» من خلال التمسك بالمشاركة الفعلية والحقيقية التي تناولتها باسهاب «المذكرة الوطنية» التي اصدرها في 9 شباط الماضي. لم تكتفِ بنود المذكرة بالاصرار على هذا الجانب فحسب، بل يعدّها سيد بكركي خارطة طريق لاهداف تشمل ــــ الى استعادة الدور المسيحي ــــ سبل النهوض بالدولة ومقوّمات الحكم وقواعد الميثاق والعيش المشترك والمحافظة على الكيان الدستوري. لا يسع الوصول الى الاهداف تلك من دون استعادة الدور المسيحي اولاً.
يتمسك بالمواصفات اياها لا بأحد الاسماء. شجّع الزعماء الاربعة على الترشح، ووجد في كلّ منهم الحيثية الشعبية والخبرة والالمام بتحديات البلاد، الا ان الخيار هو لمجلس النواب. يريد الاستحقاق في المهلة الدستورية وتفادي الفراغ في الرئاسة، وفتح امام المرشحين الاربعة ابواب الدورات الثلاث الاولى كي يختبروا فوزهم، على ان تحسم الدورة الرابعة متى اخفق اي منهم في بلوغ المنصب اسم مرشح آخر سواهم.
4 ـــ رغم ان اجتماعات الاحزاب الاربعة تستقطب الاهتمام، الا ان بكركي ابقت ابوابها مفتوحة ايضا امام مرشحين آخرين يقصدونها. وهو ما عناه البطريرك امام زواره بالقول انهم جميعا أبناؤه. للجميع حق الترشح وخوض الانتخابات بلا اي قيد من اي كان. يعقد اجتماعات تشاور مع هؤلاء في الموضوع نفسه، الا انه ارتأى البدء من المكان الاصعب.
5 ـــ من خلال نتائج اجتماعات اللجنة السياسية التي يطلع عليها تباعاً، تكوّن لدى الراعي، عبر ما يفصح عنه مندوبو الاحزاب الاربعة، انطباع مفاده ان ليس لاي من زعمائها المرشحين لرئاسة الجمهورية «برنامج حكم» تقدّم به. اكتفى المندوبون بالتطرق الى افكار عابرة عن سبل تعزيز الدور المسيحي، وفي خاطر كل منهم انه يتحدث عن زعيم حزبه ومواصفاته المطابقة لما يجمع عليه المرشحون الاربعة، وهو انتخاب «الرئيس القوي».