نطق رئيس مجلس النواب نبيه بري بعبارة: «أعرف نتائج التأجيل منذ الآن». هكذا جاء رد فعله السريع على تأجيل بتّ سلسلة الرتب والرواتب لمدة 15 يوم، وتأليف لجنة نيابية ـــ حكومية مع حاكم مصرف لبنان ورئيس مجلس الخدمة المدنية (الشاغر) لاعادة درس الامر برمّته من جديد، ونسيان 3 سنوات من هذا الصراع المفتوح بين مطالب هيئة التنسيق النقابية، ومصالح المصارف والمضاربين العقاريين والتجّار المحتكرين.
الاكيد ان برّي يعرف جيدا «نتائج التأجيل»، يكفي التذكير بالمثل الذي يقول «دافنين الشيخ زنكي سوا»، ولكن ما الذي قصده بـ«النتائج»؟ ان اللجان مقبرة المشاريع، كما يردد ارباب النظام عادة، وبالتالي ان السلسلة طارت ومعها محاولات ادخال بعض التعديلات على السياسة المالية والضريبية؟ ام ان حراك هيئة التنسيق النقابية يحمل قابلية التقدّم الى الامام في المواجهة ورفع السقف وتوسيع المثيل، بما يهدد «التوازنات» التي ترسّخت في الدولة والاقتصاد على مدى 22 عاما مضت؟
الرئيس نبيه بري رئيسا لمجلس النواب طيلة هذه المدّة. وهو ساهم من موقعه مساهمة رئيسة في ارساء «التوازنات» التي يخاف عليها اذا طارت السلسلة وتفلّت «الشارع» من قبضة الزعماء الطائفيين. يحاول ان يؤدي دوره كحارس «الشركة» الخائف عليها من بعض الشركاء المتهورين. وضع صيغة ظنّ ان الجميع محكوم بقبولها، حرّك من يخضع له في هيئة التنسيق النقابية للضغط من اجل قبول رشوة والسكوت عن خسارة نصف الحقوق في السلسلة، في المقابل، سمح لوزير المال علي حسن خليل، وهو من كتلته، باقتراح توسيع الاقتطاعات الضريبية قليلا، حيث يوجد الكثير من الارباح في المصارف والعقارات والبناء، من دون ان يعفي، طبعا، سائر الفئات الاجتماعية من تحمّل بعض العبء عبر زيادة بعض الرسوم والتعرفات وضرائب الاستهلاك.
تكتل المصالح القوي نزع «المطرقة من يد بري وسلّمها إلى السنيورة وعدوان»


بدا الرئيس بري مفاجَأً بسير الجلسة ونتائجها. ما الذي يحصل؟ ادارها كما في كل مرّة، ونسج ما اعتقده لعبة «النظام» المعتادة، لكنه في هذه المعمعة لم يجد خلفه (ربما امامه او جنبه) سوى نواب حزب الله الى جانب نواب حركة امل. 28 نائبا فقط صوّتوا ضد التأجيل، بينهم نائب واحد من التيار الوطني الحر (نبيل نقولا) امتنع عن التصويت، فيما 65 نائبا كانوا خاضعين بالكامل لادارة رئيس كتلة تيار المستقبل فؤاد السنيورة ونائب حزب القوات اللبنانية جورج عدوان. امس لم يكن الرئيس بري ساحرا يُخرج الارانب من اكمامه ويهتف الكل باسمه. كان السحر الفعلي يكمن في التحالف الوثيق الذي عكسته الجلسة بوضوح بين البرجوازية الريعية، التي مثلها السنيورة، والبرجوازية المسيحية «التقليدية» التي مثّلها عدوان. سحر اخضع ميشال عون مجددا لخدمة المصالح التي يدّعي مقاومتها امام جمهوره، تماما كما فعل في معركة تصحيح الاجور وتحصينها التي خاضها وزير العمل السابق شربل نحاس (المحسوب عليه حينها).
تكتل المصالح في المصارف والعقارات والتجارة كان امس هو الحزب الاقوى في مجلس النواب، ضمّ التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية وتيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي وحزب الكتائب، من دون ان يعني ذلك ان حزب الله وحركة امل كانا يمثلان حزب المعلمين والموظفين والمتقاعدين، الامر اكثر تعقيدا من ذلك، فهما مارسا في الايام القليلة الماضية ضغوطا هائلة لاخضاع هيئة التنسيق النقابية، وكادا أن يطيحا كل ما انجزته في السنوات الثلاث الماضية، لولا ان حزب اصحاب الرساميل لم يبادر الى اطاحة صيغة بري المطروحة.
تكتل المصالح القوي الذي نزع «المطرقة من يد الرئيس بري امس وسلّمها الى السنيورة وعدوان، لا يريد اي تسوية او مساومة، حتى على طريقة «الرشوة» المعتادة. يريد كسر هيئة التنسيق النقابية ومنعها من تحقيق مطلبها باي ثمن، لا يريد اي عمل الآن غير القمع (وهو ما طالب به النائب روبير غانم امس فعلا)، يعتقد ان «النظام» لا يزال قويا لكي يستمر كل شيء على حاله، وان بري وحزب الله عليهما التضامن مع الاخرين لوأد الصراع الاجتماعي، لذلك وضع لائحة مطالبه في مقابل مطلب 220 الف اسرة تستفيد مباشرة من السلسلة، طالب السنيورة امس برفع الضريبة على القيمة المضافة من 10% الى 12%، ورفع اسعار الكهرباء وتسليمها لاصحاب الرساميل، وإقرار قانون الشراكة مع القطاع الخاص وخصخصة الاتصالات وزيادة ساعات عمل الموظفين... وخفض كلفة السلسلة من 2800 مليار ليرة الى 1800 مليار. هذا ما يقبله المصرفيون والمضاربون العقاريون والمحتكرون ومحتلو الاملاك العامّة والمهربون... قال السنيورة إن اي مس بما صاغه هو شخصيا منذ عام 1993 لا يُمس، حتى لو كان عبارة عن زيادة الضريبة على ربح الفوائد نقطتين فقط.
للأسف، ربح حزب اصحاب الرساميل حتى الآن. وهيئة التنسيق النقابية لن تنجح بإحداث خرق اذا بقيت خاضعة للتهديد بفرطها، وبقيت تتجنب توسيع دائرة معركتها لتشمل استعادة مشروعية الدولة من خلال اعادة نظر شاملة باليات اعادة توزيع الثروة، ولا سيما النظام الضريبي. على الواعين لمصالحهم الاجتماعية في الهيئة ان يقرروا الآن ان وحدة الهيئة (وهي مكوّنة اصلا من ائتلافات حزبية) ليست اهم من محاولة تحويل حراك الموظفين والمعلمين الى انتفاضة. هذه اللحظة مناسبة لاختبار مناعة النظام وقدرته على استخدام العنف، والاهم اختبار مدى قابلية المدينة، بعد كل ما اصابها، لخوض السياسة وفرض تغيير في «التوازنات» الاقتصادية.