في الدنمارك، على ما يقول إعلان قديم للزبدة، يدلّلون أبقارهم. ذلك الإعلان، يبالغ إلى حد كبير في تصوير الدلال الذي تحظى به الأبقار، لإنتاج أبرز أنواع الزبدة. وهي مبالغة مفهومة، إذ يعمد إليها المُعلِن لإقناع المستهلك بشراء منتجه. لكن، أن تبالغ محطة إعلامية في برنامج يحمل عنوان «تحقيق» في تدليل عبد الله خوري، صاحب معامل «دايري خوري» لإنتاج الأجبان والألبان، فهذا ما لا يحدث في الدنمارك، وما لا ترضى به حتى الأبقار.
فالـmtv التي أفرزت برنامج «تحقيق» للتسويق لخوري، ومعامله، في إعلان ترويجي طويل، وعلى الأغلب مدفوع، تحوّل برنامجاً يُفترض أنّه يحقق في قضايا تهم حياة الناس وأمنهم الغذائي، وكشف المخالفات والفاسدين، إلى برنامج إعلاني.
قد يقول قائل إنّ المحطة حرّة في عرض ما تشاء كيفما تشاء، وبالأسلوب الذي تراه مناسباً. هذا غير صحيح! كان الأمر ليكون مقبولاً لو أنّ البرنامج كما تسوّق له «قناة المرّ»، ترويجياً تجارياً، على غرار برنامج property yours الذي تبثه ويروّج لبيع العقارات والبيوت والشقق.
لكن «تحقيق»، كما تسوّق له القناة على موقعها الإلكتروني، «يلقي الأضواء على مشاكل المجتمع، الأزمات، الحاجات غير المؤمنة، والصعوبات التي يواجهها المجتمع اللبناني»، مضيفاً أنّ مقدّمته كلود أبو ناضر هندي «تغوص في أعماق التحقيقات بحثاً عن الحقيقة». وأمام هذا التعريف، الموغل في تبنّي قضايا الناس والغوص في أعماق مشاكلهم، يصبح مشروعاً سؤال هندي عن «المصير» الذي أوصلت إليه برنامجها، وكيف قبلت لنفسها، أن تقف إلى جانب عبد الله خوري، في بداية الحلقة لتسأله عن الحملة التي يتعرّض لها، قبل أن يجيبها بأنّ هذه الحلقة سترد على جميع الحملات التي يتعرّض لها. نجد أنفسنا أمام حلقة ترويجية، «تمسح جوخ» صاحب المعمل، وتنطق بلسانه، وتذهب بعيداً في الترويج لأبقاره وماعزه وأجبانه وألبانه، بلغة مدائحية مقززة، مثل القول إن «الماعز في مزارع خوري تنام على فراش من ذهب»، والأبقار «تعيش في جوّ موسيقي دائم»!
تدخل كاميرا «تحقيق» إلى معامل «دايري خوري»، بعدما «فتح لنا المعمل أبوابه بكل شفافية» وفق تعبير هندي. الجولة الاستعراضية، لا تضيء إلا على ما يريد خوري أن يوصله إلى المستهلك، من دون أن تحاول الكاميرا البحث عن احتمالات وجود غش أو تلاعب أو نقص في التعقيم أو انتهاك لمعايير النظافة، والتعليب، والتبريد، وغيرها من الأمور التي يتمحور حولها دور الصحافي إذا كان يجري تحقيقاً، يهم المجتمع، عن الأجبان والألبان.
لم تطرح كلود أبو ناضر هندي أي سؤال يمكن له إحراج صاحب الإعلان، بل على العكس تماماً، حرصت على تبييض «صفحته» (ولبنته؟)، وتبرّعت للرد على الحملات التي يتعرّض لها. لكن ما هي هذه الحملات يا ترى؟ المسألة لا تحتاج إلى بحث عميق. المؤسسة التي يملكها عبد الله خوري كانت من بين معامل الألبان والأجبان التي كشف برنامج «حكي جالس» (الثلاثاء ــ 21:30 على lbci)، استخدامها مواداً حافظة ومضادات حيوية (تحديداً مادة النتاميسين) في تصنيع اللبنة التي تباع على أنّها «طازجة» و«بلدية».
معرفة هذا التفصيل، لا تبطل العجب، بل تضاعفه. بدل قيام برنامج «تحقيق» بالإضاءة على هذه المشكلة عموماً، ومحاولة تقديم تطمينات عامة تتعلق بقطاع إنتاج الألبان والأجبان، والتزام المعامل بمعايير إنتاج اللبنة، تخص كلود أبو ناضر هندي عبد الله خوري ومعامله وأبقاره بدلالها، على الطريقة اللبنانية هذه المرة، وليس الدنماركية!