الصدفة وحدها كشفت كيفية تفلّت المستشفيات الخاصة من قبضة القوانين ومن الرقابة الفعلية. والدة إحدى قاضيات ديوان المحاسبة وقعت تحت ظلم أحد المستشفيات الخاصة برغم أنها القاضية المسؤولة عن أعمال الرقابة على أعمال وزارة الصحة. وعندما جاءتها عقود المستشفيات مع الوزارة عن عام 2014، قررت ان تقوم بوظيفتها في التدقيق والتحقق من عدم وجود اي مخالفات، فكان اول الغيث ملاحظتها ان المستشفيات لا تضع كفالة حسن تنفيذ بنسبة 10% من قيمة العقود التي تبرمها مع الوزارة. الأمل ألا يكون هذا الاقتصاص المستحق موقتاً، بل أن يوظّف في سبيل الإصلاح.
لم يتوقف يوماً التنكيل بالمرضى على أبواب المستشفيات الخاصة. أصبح الأمر جزءاً من يوميات اللبنانيين إلى حدّ التدجين. وفي النتيجة لم يعد مهماً موت المريض أو تهديد حياته، بل المهم «سمعة» المستشفيات. لذلك يشن اصحاب المستشفيات وحماتهم حملة دائمة على من «لم يتدجنوا» بعد. المتحدث باسم المستشفيات الخاصة، سليمان هارون، كرر تبريره «اخطاء» المستشفيات، مشيرا إلى ان السبب في وقوع بعض «الأخطاء» هو الضغوط الناجمة من عدم تسديد الاموال المترتبة على الجهات الضامنة، داعيا أمس من لديه «شكوى» إلى التوجه إلى نقابة أصحاب المستشفيات الخاصة بوصفها الجهة المعنية بـ«حلّ أي مشاكل يمكن أن تطرأ بينها وبين المواطنين أو المرجعيات الرسمية». تحاول المستشفيات في خطابها ان تنقل التدجين من مرحلة الاستجداء على أبواب المستشفيات إلى مرحلة الشكوى أمام النقابة حصرا، واسكات كل صوت يجاهر بالواقع الظالم.
كلام هارون يشمل الأسر المفجوعة والأسر التي تمكنت من الحصول على الاستشفاء والطبابة بسبب صلة ما بمركز القرار في وزارة الصحة... لهؤلاء كلّهم يقول هارون: «نتمنى على الجميع أن يتفهموا أن القاء اللوم تلقائياً على المستشفيات نتيجة أي خلل لا يحلّ المشكلة، ولا يمكن أن يكون بديلاً عن إجراء إصلاحات جذرية على كافة الاصعدة وفي مختلف الدوائر المعنية».
إذاً، أين المشكلة؟ وفق هارون فإن «مستحقات المستشفيات في ذمة كافة الجهات الضامنة الرسمية بلغت حتى تاريخ 30/4/2014 نحو 1300 مليار ليرة. منها أكثر من 500 مليار في ذمة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وحده. كما أن هناك أكثر من 500 ألف فاتورة غير مدقّقة في الضمان الاجتماعي تعود إلى فترات تمتدّ من 7 أشهر إلى 3 سنوات. الامر في غاية الخطورة، لانه قد يسبب ضياع فواتير المستشفيات، وهو ما حصل في بعض الحالات».

المستشفيات الخاصة تأسر اللبنانيين رهائن للضغط على الدولة

كلام هارون لا يعني الا ان المستشفيات تريد التهرّب من مسؤولية تنفيذ العقود مع الدولة. فالمعادلة التي يرسمها تضع المرضى رهائن للضغط على الدولة المتخلفة عن سداد فواتير الاستشفاء. المعادلة تتضمن استمرار «الخلل» الذي يتضمن «الموت على أبواب المستشفيات» مقابل سداد الدولة للمستحقات المالية. هي معادلة تستدعي إثارة سؤال أساسي: ما هي الضمانة التي تقدّمها المستشفيات للدولة اللبنانية بأنها ستلتزم تنفيذ العقود الموقعة مع وزارة الصحة؟ هل تلتزم المستشفيات العقود مع الوزارة فعلا؟
في الواقع، هذا السؤال طرحته قاضية في ديوان المحاسبة ترأس الغرفة المعنية بالرقابة على إنفاق وزارة الصحة وعقودها مع الغير. ويا للمصادفة، فإن هذه القاضية، وفق مصادر وزارة الصحة، كانت قد تعرّضت لظلم من أحد المستشفيات الخاصة وطلبت مساعدة وزارة الصحة وتبيّن لها أن هذه المساعدة سياسية الطابع وزبائنية... عندها صبّت هذه القاضية خلاصة تجربتها الشخصية في دراسة العقود التي تنتظر موافقة الديوان عليها لتنفيذها.
تبيّن لهذه القاضية أن العقود مع المستشفيات خالية من شرط كفالة ضمان حسن التنفيذ المنصوص عليها في المواد 126 و127 و135 و136 من قانون المحاسبة العمومية. هذه المواد تحدّد شروط العقد وتشير إلى الكفالة على أنها أحد الشروط الأساسية للعقود، وأن أي نكلان بالعقد أو إخلال بالالتزامات، يستدعي اتخاذ إجراء من قبل الإدارة المعنية بفسخ العقد ومصادرة الكفالة.
برغم ذلك، يقول وزير الصحة وائل أبو فاعور، إن «الأمانة العامة لمجلس الوزراء ترى أن المسألة غير صحيحة قانونياً»، مشيراً إلى أن مجلس الوزراء «أخذ قراراً بعدم وضع أي كفالة إنما مراعاةً لمطلب ديوان المحاسبة سيعاد النظر بالقرار. العقود كانت توقّع سابقاً من دون كفالة وأمر إلغاء العقود من ضمن صلاحيات وزير الصحة وأنا شخصياً ألغيت عددا من العقود عندما رأيت أن هناك أخطاء تحصل».
وبحسب هارون، فإن الوزير السابق والوزير الحالي لوزارة الصحة يرفضان هذه الكفالة، وأنه تلقى وعداً من أبو فاعور بالعمل على «الغاء قيمة الكفالة المستجدة وانجاز العقود العائدة لسنة 2014 كي يصبح بالامكان البدء بتسديد الفواتير».
هذه المفارقة تكشف عن دور الأمين العام لمجلس الوزراء سهيل بوجي في نسف القوانين، فهل يعقل أن يصبح قرار الأمانة العامة لمجلس الوزراء بمرتبة قانونية أعلى من قانون المحاسبة العمومية... من سمح بحصول هذا الأمر يجب أن يحاسب، لكن الفضيحة المستورة أن «إعفاء» المستشفيات الخاصة من شرط الكفالة يجري منذ سنوات بعيدة على أيدي وزراء الصحة. وهؤلاء استندوا إلى فتوى من بوجي بالغاء الرقابة عبر الكفالة المصرفية، وتحويلها إلى رقابة سياسية تمنح المستشفيات «شمسية» سياسية ــ مافياوية.
أما طريقة استعمال الغطاء السياسي المافياوي، فهي بسيطة جدا، وقد استعملت في كثير من المناسبات من قبل وزراء الصحة المتعاقبين ومستشاريهم نظراً إلى ما تعطيهم من قدرة على تقديم خدمات سياسية ــ طائفية، أبرزها إدخال المرضى على حساب الوزارة بوصفها منة وخدمة لا حق من الحقوق الثابتة. فالوزير لديه صلاحية فسخ العقد مع المستشفى، ولديه صلاحية توقيعه... فلو كانت هناك كفالة مصرفية لكان الأمر قصاصاً كبيراً لكل مستشفى، لكن فسخ العقود يجري حالياً من دون أي كلفة إضافية على المستشفى، وذلك برغم أن العقوبة يفترض أن تتضمن غرامة مالية على مخالفات ارتكبها المستشفى. أما الملفات المالية التي تحال على القضاء عن التلاعب بالفواتير والغشّ في الأسعار المتفق عليها بين المستشفيات ووزارة الصحة... فهي كثيرة وعديدة، لكنّ أيا منها لم يصل إلى خواتيم تغريمية «تربّي» المستشفى المخالف، وكل المؤسسات التي تدّعي أنها لا تبغى الربح.
الكفالة تضمن حسن تنفيذ العقد، وهي بمثابة غرامة مسددّة مسبقاً، وإذا تبيّن أنها لم ترتكب اي مخالفة تعاد الكفالة في نهاية العقد إلى صاحب المؤسسة. والكفالة كما يعرفها القانون، فهي وضعت مسبقاً من أجل ردع الشركات الخاصة والكارتيلات وأصحاب المطامع في المال العام عن ارتكاب المخالفات.
الصدفة وحدها هي التي كشفت فضيحة الإعفاء من الكفالات في عقود المستشفيات مع وزارة الصحة. يجب أن تكون الصدفة خير من ألف ميعاد، وأن يستثمر اقتصاص القاضية من المستشفيات الخاصة في سبيل إصلاح العقود مع المستشفيات وتضمينها أداة رقابية.




فرق أسعار أدوية العلاج الكيميائي

في مؤتمره الصحافي أمس، أقرّ رئيس نقابة أصحاب المستشفيات الخاصة سليمان هارون أن المستشفيات تجبر المرضى المضمونين وأسرهم على سداد فرق أسعار أدوية العلاج الكيميائي بين ما تعتمده وزارة الصحة العامة و«أي سعر آخر أدنى منه تعتمده أي جهة ضامنة»، مشيراً إلى ضرورة «التزام الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي «أسعار الأدوية وفق تسعيرة وزارة الصحة برغم تحفظنا عليها، إذ لا حاجة إلى المزيد من الاشكالات والمعاناة في هذه الظروف المعيشية الصعبة، وتحميل المرضى أعباء إضافية قد تتجاوز قدراتهم».
المقصود بهذا الكلام، أن المستشفيات الخاصة قرّرت أن تتفاعل سلباً مع قرار وزارة الصحة العامة القاضي بخفض أسعار الأدوية السرطانية بما يراوح بين 20% و30% لأنه يخفف من أرباح المستشفيات والصيدليات الموجودة في داخل المستشفيات، وبالتالي فهي لن تتقيد بإجراءات الضمان التي تتعلق بفوترة الأدوية السرطانية، لأن آلية احتساب هذه الأسعار ستؤدي إلى تقليص حصّة المستشفى من مبيعات الأدوية في داخلها، وبالتالي بات على المضمون أن يشتري الدواء من خارج المستشفى، حتى يحصل عليه بالسعر الرسمي، لكن المستشفيات، في المقابل، تفرض على المضمونين أن يدفعوا كلفة لحقن الدواء (خلال نصف يوم في المستشفى) أعلى مما كانت عليه سابقاً، وبالتالي، سيدفع المضمون الفرق في كلتا الحالتين. وبحسب مصدر مطلع، فإن مجلس إدارة الضمان الاجتماعي ناقش هذه المسألة في اجتماعه أمس، وخصوصاً أن تهديدات هارون بتدفيع المضمونين فرق الأسعار كان علنياً، لكنه لم يتوصل إلى اتخاذ أي قرار في هذا الموضوع، في انتظار نتائج اللقاءات التي ستعقد خلال الأيام المقبلة مع وزير الصحة لبحث طرق تطبيق قرار وزارة الصحة العامة بخفض أسعار الأدوية السرطانية من دون أن ينعكس هذا الأمر على المضمونين.