كانت محطة تلفزيون «المنار» قد انضمت إلى زميلاتها الأخريات من الشاشات اللبنانية، لنقل كلمة سعد الدين الحريري مباشرة على الهواء، بعد ظهر الأربعاء الماضي من السعودية. بدأ رئيس الحكومة السابق كلامه غير المسبوق على شاشة المقاومة، وكان صوته واضحاً جداً على موجتها. فجأة، أطلق زعيم تيار المستقبل راجماته اللفظية في اتجاه الرئيس السوري بشار الأسد، محمّلاً إياها رؤوساً متفجرة من عيار «المجرم» وما فوق.
فانقطع فوراً الإرسال السعودي الاستثنائي للمحطة. ليعود إلى استئناف برامجها المقررة، من دون أي تفسير أو توضيح. كأن السبب بديهي. سمعه مشاهد «المنار» من «ضيفها» مباشرة، فلا لزوم لتكراره بالمداورة... واقعة لا تقتصر دلالاتها على مجرد موقف إعلامي ورد فعل. بل تحمل من المعاني أكثر بكثير، مما يجدر بالزعيم العائد إلى بيروت أن يتوقف عنده، بعد خطوته بالأمس المرجوة أن تكون عودة، لا زيارة.
ففي الأساس، ماذا كانت تعني إطلالة الحريري من مدينة جدة على هواء «المنار»؟ طبعاً كان القصد أن ثمة معركة وطنية بامتياز، اسمها حرب الإرهابيين التكفيريين على لبنان وقواه المسلحة الشرعية وكامل شعبه، من بوابة عرسال. وأن حرباً كهذه، في خطورتها ووجوديتها، يجب أن توحّد الجميع في مواجهتها. إذ ليس تفصيلاً ولا عرضياً أن يحمل اسبوع واحد خبرين: الأول استشهاد نور الجمل في عرسال، على أيدي «داعش». بما هو بيت الجمل البيروتي بالنسبة إلى الحريري وتياره وشارعه. والثاني خبر استشهاد أحد أنسباء السيد حسن نصرالله في سوريا، في مواجهة «داعش» نفسها. مواجهة واحدة في القتال يجب أن تجمع بين الأخصام في السياسة، وأن تصلّب في موقف الدم ما تميّزه مواقف الإعلام. لكن الأهم في تلك العبرة، أن هذه المواجهة الجامعة للبنانيين، لم تعد تقتصر ساحة حربها على لبنان. بل هي تشمل سوريا أيضاً وأصلاً. ذلك أنها بدأت منها. ومنها انطلق التكفيريون والإرهابيون. لا بل هي مواجهة باتت تمتد إلى قرقوش المذبوحة في سهل نينوى بصمت مدو قبل ساعات.
هكذا، بدت مبادرة السعودية إلى تقديم مبلغ مالي لدعم معركة لبنان في مواجهة الإرهاب، وكأنها رسالة وجهها عقل الرياض اللبناني، بصوته البيروتي. مفادها أن نعم قد أدركنا دقة المرحلة وخطورة الظرف ومقتضياته التوحيدية. فرد حزب الله على التحية بمثلها، مشرّعاً هواءه وشاشته وإعلامه لنقل تلك الرسالة... قبل أن يخرق السعودي، أو الحريري لا فرق، هذا السياق.
فالمعركة الإرهابية التكفيرية المفتوحة ضد لبنان، تقتضي استراتيجية مواجهة مترابطة عضوياً، في أربع حلقات. صحيح أن حلقة المواجهة الأولى التي ظهّرتها معركة عرسال الأخيرة، هي حلقة الجيش والقوى المسلحة الشرعية كافة. غير أن سؤالاً يجب أن يطرحه الحريري على نفسه، تماماً كما طرحه وليد جنبلاط وأجاب عنه يوم السبت الماضي، وتماماً كما طرحته بكركي وتجيب عنه بكلام أكثر وضوحاً وجلاء في صرحها واجتماعاتها: ماذا لو ترك الجيش اللبناني وحده في مواجهة الإرهابيين، من دون مؤازرة المقاومة له، من الهرمل إلى مشارف جبل الشيخ؟ وماذا لو لم تكن تلك المقاومة نفسها في كامل جهوزيتها في الجنوب؟ هكذا يظهر بوضوح أن حلقة الجيش الأولى، مرتبطة عضوياً في المعركة الراهنة، بحلقة ثانية هي المقاومة. وهو على الأقل ما سلّمت به حكومة تمام سلام الحريرية. وأبسط الصدق والنزاهة في السلوك الشخصي كما العمل الوطني، أن يكون هذا التسليم حقيقياً لا لفظياً.
ثم بعد حلقتي الجيش والمقاومة، هناك حلقة ثالثة. إنها إعادة تكوين السلطة بشكل صحيح سليم سوي ميثاقي متوازن قوي قادر منتج وفاعل. فماذا لو صمد الجيش في المواجهة، وصمدت معه المقاومة، وانهارت الدولة من خلفهما، او تحلّلت مؤسساتها، أو ألغاها الفراغ، أو أعدمها وجود أشخاص فارغين؟ ألا تكون الكارثة نفسها؟ كأنما قد سقطت عرسال وما بعد ما بعد عرسال.
وتبقى حلقة رابعة، مطروحة أصلاً كما هي بصراحة مطلقة، ماذا لو صمد الجيش والمقاومة، وكان لنا رئيس رئيس، لا رئيس صفقات الأوسمة ومراسيم التجنيس وأسلحة الورق والعمولات ومحطات البنزين وتخرصات الخشب... ثم مع ذلك كله، سيطرت «داعش» في سوريا؟ هل تصمد الحلقات الثلاث الأولى إذا كان بات برابرة البغدادي يحكمون دمشق؟
هكذا تتضح تلك السلسلة العضوية الترابط في حلقاتها الأربع، والتي تشكل اليوم مقتضى مصيرياً لإنقاذ البلد. فالوقوف مع الجيش، يجب أن يتلازم الآن مع واجب الوقوف إلى جانب المقاومة. والوقوف مع قوتي البلد، يقتضي في شكل متزامن الوقوف مع بناء دولته على قاعدة إعطاء الحق لمستحقه، وعلى قاعدة أن الجماعات شركاء في الوطن، لا أجراء عند أوصيائه. والوقوف مع الجيش والمقاومة ومع رئاسة المستحق للرئاسة، يجب أن يتلازم مع التسليم بأن المعركة ضد الإرهاب التكفيري في بيروت، هي نفسها في دمشق. وأن ديمقراطية الشام ــــ التي تطلع إليها اللبنانيون السياديون، منذ عقود، يوم كان منتفعو الوصاية يمجّدون حكم البعث ويبخرون نظامه ــــ لا يمكن أن تتحقق الآن بدعم «داعش» في سوريا، ولا حتى بالصمت حيالها. أربع حلقات، يمكن للحريري أن يبدأ تلمّسها في بيروت اليوم. فيكتسب شرعية ذاتية يحتاجها. قبل أن تتبلور غداً في اتفاق أميركي ــــ إيراني او إيراني ــــ سعودي، فتصير شكلاً جديداً من أشكال الوصاية، أو الشرعية غير المستحقة ولا المستقرة. إنه كل الفارق بين لحظة الزيارة وتاريخ العودة.