منذ انطلاقها، كان ثمة إجماع لدى المعنيين والمراقبين على أن لدى «داعش» خبراء محترفين في تقنيات التواصل، وخصوصاً في مجال إيصال الرسالة النفسية والذهنية المطلوبة، بواسطة وسائل الاتصال الجماهيري المرئية والمسموعة. الاهتمام بالصورة والصوت، الخلفيات السمعية والبصرية، المنظومة الرموزية، طقوس الحواس... كلها مدروسة بأدق التفاصيل لدى هذا التنظيم المفترض متشكلاً من أشخاص متواضعي القدرات والإمكانات العلمية والتقنية. لكن الأهم من تقنيات التواصل لدى «داعش»، تقنياتها المتخصصة في السيكولوجيا الاجتماعية للشعوب التي تعيش في بيئتها، كما لتلك التي تستهدفها.
في محاضرة مسهبة ألقاها أحد خبراء الاستخبارات البريطانية قبل أسابيع لحلقة من الأمنيين والدبلوماسيين في لندن، كان بحث مفصل لدرس تقنيات «داعش» في مقاربة يائسي أحزمة البؤس في المدن السنية في المشرق. من المتوسط إلى الخليج. حيث عرض الخبير لنجاحات «داعش» في تجنيد شريحة عمرية مراهقة وشابة من تلك القنابل البشرية المتولدة بوفرة وكثرة في براميل البارود العمرانية تلك. غير أن «داعش» تحترف أيضاً المقاربة السيكولوجية الجماعية للبيئات التي تعاديها كذلك، خصوصاً تقنية التخويف والتفريق، الإرهاب والشرذمة: قتل الضحية لا كغاية، بل كوسيلة لتخويف الآخر الحي. وقتل الضحية بأبشع طريقة ممكنة وأكثرها بربرية ووحشية وهمجية، لا للذة ولا عملاً بسند شرعي، بل من أجل جعل الرعب في نفوس الأحياء دافعاً لتفرقتهم ولشرذمتهم، ولجعل كل فرد من الناجين يحس بأنه مشروع الذبيح التالي، فيسعى إلى إنقاذ نفسه منفرداً، بأي ثمن وأي وسيلة، بمعزل وجماعته، وربما حتى عن أهله. سيكولوجيا الإرهاب الداعشية هذه تهدف إلى جعل غريزة البقاء هرباً وفردانية، هي سيدة الموقف لدى كل من تستهدفهم. فتصير حربها، هي القليلة العدد والعدة، لا مع جماعات وشعوب ودول أكبر منها عدداً وأكثر منها عدة، بل مع مجموعة أفراد فردانيين متشرذمين، وهلعين مرتعبين مذعورين ومهزومين حتى قبل مواجهتها.
الاستثمار في الرعب والشرذمة إذن، هذا هو الرأسمال الداعشي الأول والأكبر. وهذا تحديداً ما حاول التكفيريون تطبيقه في عرسال، وخصوصاً في أزمة العسكريين المخطوفين. الذبح أولاً من أجل بث الرعب. والتمييز المذهبي ثانياً من أجل بث التفرقة والشرذمة وضرب مفهوم الجماعة وروح الشعب وإثارة كل الهويات القاتلة ذاتياً، من المنطقة إلى المذهب. كانت لعبة «داعش» مكشوفة، مفضوحة. لكنها مع ذلك، نجحت، ولو جزئياً. صار المعنيون بالعسكريين المخطوفين مدفوعين إلى حدود البحث عن النجاة الذاتية لا غير. اقترب الخوف من حدود معادلة: إنقاذ الأسرى بأي ثمن. والأي ثمن قد تصير أكبر من شعب ووطن. صار الرعب بحجم حرف المسؤولية عن الإرهابيين والتكفيريين، وتحميلها للبنانيين، عسكريين وسياسيين، قيادة هناك أو وزراء ومسؤولين هنا. شيء من متلازمة استوكهولم الخاصة بحالة ذوي المخطوف. لم يعد الجلاد هو المجرم. صار مواطن الضحية في موقعه. وأوشكت الكارثة أن تقع، خصوصاً عندما نفث «داعش» سلاحه الثاني: التمييز المذهبي بين الأسرى، لتستفيق كل شياطين النفوس المريضة أو الخائفة أو حتى المتخلفة...
في هذا السياق بالذات، لا بد من تكرار الإشادة بصفة «رجل الدولة» الحريص الحكيم الرصين الجريء والشجاع، التي تجلت في والد الشهيد علي السيد أثناء تشييع ابنه المرتفع فعلاً وحرفاً على مذبح الناس والوطن قبل يومين. ولا بد من بعض غض الطرف عن كل المظاهر الفئوية التي رافقت ذلك التشييع، بشكل مغاير لإرادة الوالد الأثكل. غض طرف، على قاعدة تفهم ظروف الناس المفجوعين، في تعبيراتهم العفوية من جهة، لكنه جزئي على قاعدة التنبه إلى احتمال وجود مندسين بين هؤلاء، يكملون استثمار «داعش» في الشرذمة اللبنانية الداخلية، كما على خلفية الحذر من احتمال ألا تكون تلك المشهدية المسلحة عفوية بالكامل من جهة أخرى. مسألة متروكة في مؤدياتها للأيام المقبلة، ولأوضاع الشمال القلق، ليثبت أهله أنهم أهلٌ لدم علي، في وجه ذابحيه المعروفين والمقنعين.
لكن ما لا يمكن تركه لأي يوم آت، هو موقف القوى والمناطق المسماة مسيحية في ذلك اليوم الوطني المهيب. هذه القوى والمناطق هي من اشتهر منذ عقود بظاهرة تقديس الجيش، وأسطرته، وجعله صنماً صالحاً للعبادة. وهي من أطلع ويطلع، منذ أيام فؤاد شهاب، طبقة سياسية بيزنسية تافهة سخيفة، تحترف تأليه «القائد»، وتشكيل زبانية له ولعائلته، حتى إجباره على تبنّي مشروع رئاسي غصباً عنه وعن مناقبيته ومصلحة مؤسسته، لمجرد تأمين مصالحها. وهي المناطق والقوى التي دأبت من دون أي استثناء على طلي جدرانها برايات الجيش في كل مناسبة، وعلى تغطية سمائها بصور «القائد» في كل أول من آب وفي كل 22 تشرين ثان، وعلى استنفار كل فاسد في بلدية وكل تافه في مؤسسة تجارية وكل فارغ في جمعية صورية وكل طامع بكرسي وجاه ونفوذ... إلى توقيع اسمه على لافتة معايدة وإعلان عبودية، لسبب أو بلا سبب. لمناسبة أو من دون مناسبة... فجأة، هذه المناطق وتلك القوى بالذات غابت عن عرس علي السيد. كل تفهاء يافطاتها ومن وراءهم اختفوا. تبخروا بعد دهر من تبخير أجهزة فسادهم ومصالحهم. وحدها القوى والمناطق المسماة مسيحية وقفت متفرجة على جثمان العريس الذبيح يعبر ساحلها، وكأنه غريب عنها، وكأنه من جيش غير جيشها، أو من وطن غير وطنها. تركته وحيداً موحشاً يمر من بيروت إلى المتن إلى كسروان، فجبيل فالبترون فالكورة... من دون تحية، من دون وقفة، من دون دمعة، من دون راية ولا صورة ولا لافتة ولا جمهرة.
يكفي تحريك السكين في الجرح ربما. لكن إذا إرادت «داعش» أن يُذبح علي السيد مرتداً سنيّاً، فمن لم يشيعه شهيداً وطنياً قد ذبحه ثانية وذبح شعبه ووطنه مرتين. عفواً يا علي وعذراً. نستغفرك، لا لأن جلاديك أذكياء، بل أكثر لأن بعض أهلنا أغبياء أغبياء.