«هل تناولت السلطات الدعارة في جميع أبعادها، بما فيها روابط الاستغلال والسلطوية المتمثلة غالباً في علاقة هؤلاء بالذين يستغلون دعارتهم؟ أم بقيت محصورة في المقاربة الأخلاقية التقليدية التي يظهر من خلالها الذين يمارسون الدعارة متواطئين مع الذين يستغلونها ومسؤولين عنها بالقدر نفسه تجاه المجتمع؟».
سؤال انطلقت منه دراسة «الدعارة جريمة أخلاقية أم جريمة استغلال؟» المعدّة من قبل المحاميين نزار صاغية وغيدا فرنجية والتي أطلقتها جمعية «كفى عنفاً واستغلالاً» عام 2013.
اللافت هو ما «تفضحه» هذه الدراسة من ممارسات و»سلوكيات» قانونية استنسابية تأتي في كثير من الأحيان على حساب الفئات المهمّشة (المستضعفة) من النساء ضحايا الدعارة. ففي الوقت الذي تغض فيه الدولة النظر عن وجود تنظيمات متفرّقة لمهن يحتمل أن تترافق مع تقديم خدمات جنسية لقاء بدل (الفنانات والعاملات في مجال التدليك)، و»ترعى» إقامة دعارة «فاخرة» تستقطب فيها السياح، نجدها نفسها تتشدد في ملاحقة الفتيات، التي تثبت التحقيقات هشاشة خلفيتهن الاجتماعية والاقتصادية، لكونهن «اصطدن زبائن على الطرقات العامة».
هذا التشدد يتجسّد في الملاحظات التي سجلتها الدراسة على صعيد أصول التحقيقات. إذ لفتت الى الكثير من الإجراءات «المجحفة» التي ترافق التحقيق. لعل أبرزها هو اتخاذ إجراء فحوص العذرية وهو إجراء غير قانوني يمس الكرامة الإنسانية ويجري على جسم الشخص المعني من دون موافقته، إلا أنه يتم اعتماده في الكثير من الحالات.
كذلك، من وسائل الشدة المستخدمة في بعض المخافر استخدام الضرب والتهويل. فقد أفادت بعض المدعى عليهن أمام قاضي التحقيق بأنهن ضربن بواسطة خرطوم المياه، وأجبرت أخرى على التوقيع على المحضر من دون الاطلاع على مضمونه. الانتهاكات التي يتعرضن لها هؤلاء الفتيات لا تقتصر على ذلك، بل تطال ما يمسّ حرياتهن وكرامتهن الشخصية. «تقولين إنك عازبة، فكيف تعملين في هذا المجال؟ / من فضّ بكارتك؟ /هل أنت عذراء؟»، هذه أبرز الأسئلة التي توجّه للمدعى عليها ضمن الكثير من الأسئلة الشخصية. وتُسأل الفتاة أحياناً عن ممارسة الجنس بشكل عام، إذ لوحظ أن بعض الفتيات اضطررن الى تبرير فقدانهن عذريتهن!
كذلك سجل في بعض الإفادات تفاصيل لطبيعة الأعمال الجنسية التي تقوم بها النساء، كالأسئلة عن القيام بممارسة جنسية كاملة أو بخدمات أخرى. من الأسئلة النموذجية: «هل تمارسين الجنس الجماعي أو ترضين بدخول أكثر من زبون في الوقت نفسه؟».
يقوم القوّاد
بعملية تسهيل الدعارة للنساء تحت وطأة التهديد والترغيب

هذا الأسلوب الرامي الى الانتقاص من كرامة «المدعى عليها» ينمّ عن اقتناع دفين داخل المعنيين في السلطة بأنهم يملكون حق «تأديبهن» على ما يعتبرونه خيارهم اللاأخلاقي الذي أخدش الحياء العام والتقاليد والعادات (وهو ما حدث أيضاً في نماذج استجواب المثليين). تُسأل الفتاة عن سبب فقدانها لعذريتها ويتم إخضاعها لفحوص مهينة وغير قانونية ولا تُسأل عن ظروف وجودها في الدعارة واستغلالها من قبل المسهّل، وهي معلومات كفيلة بمعرفة إذا ما وقعت ضحية للإتجار أو لاستغلال ما.
ظهر في إحدى الحالات، أنه ورد في كتاب المعلومات أن القوّاد يقوم بعملية تسهيل الدعارة للنساء تحت وطأة التهديد والترغيب. لكن المحققين لم يستفسروا عن هذا الأمر خلال التحقيق ولم يسألوا ما إذا كان القواد يمارس أي نوع من الضغوط عليهن، بالرغم من ورود هذه المعلومة في الكتاب. وتلفت الدراسة الى أنه «يسجل إغفال كامل للمفاعيل أو الأبعاد القانونية لاستقدام نساء عبر الحدود لاستغلالهن في الدعارة، ما يشكّل دليلاً إضافياً على وقوع جريمة الإتجار بالأشخاص. ولعل ما يثبت التعاطي «السطحي» مع هذه القضية «اللاأخلاقية» هو وسائل الإثبات المستخدمة.
لا تظهر «النفحة» الذكورية في التعاطي مع هذه القضية في تبرئة «الزبون» (مقدّم الخدمات الجنسية) فحسب، ذلك أنه لا تترتب عليه أي مسؤولية جزائية وفق قانون العقوبات. بل تتجلّى في إرسائها فكرة أن الزبون «ضحية»، عبر الاستناد الى إفادات الزبائن كوسيلة إثبات لتوجيه الاتهام للفتاة بممارسة الدعارة. وتشير الدراسة الى أنه جرى الاستناد الى إفادات الزبائن في معظم الحالات. «وهو من شأنه أن يعطي أي رجل أداة ابتزاز في مواجهة نساء يرفضن التجاوب مع مطالبه في ظروف معينة».
من وسائل الإثبات الأخرى، هو الإقرار. «غالباً ما تتم إدانة المرأة بناءً على إقرارها بممارسة الدعارة السرية،علماً بأن الإقرار شكّل الإثبات الوحيد في 92 حالة على الأقل. في معظم الحالات حصل الإقرار بداية أثناء التحقيقات الأولية أمام الضابطة العدلية، وقد اعتّد به القضاة حتى في الحالات (21 حالة على الأقل) التي رجعت فيها المدعّى عليهن عن أقوالهن». حجة رجوعهن عن أقوالهن تعود الى إفادة كل واحدة بأنها انتزعت منها تحت تأثير الضرب.
اضافة الى ما ذكر، تعتبر الوشاية والعطف الجرمي ضمن وسائل الإثبات المستخدمة. فقد جرت ملاحقة 28 امرأة تبعاً للوشاية. وفي بعض الحالات تم الادعاء على هؤلاء أو إدانتهن على أساس هذه الوشاية فقط، من دون أن يكون في الملف أي إثبات آخر.
ماذا عن إفادات الفتيات؟ من يكترث لأقوالهن؟ وهل تؤخذ بعين الاعتبار؟ ليس مستبعداً أن يتم التعامل مع أقوالهن بازدراء (وهو ما حصل فعلاً في بعض الحالات)، فتفقد الفتاة حقها في التبرير حتى!




قانون الإتجار بالبشر «يعاقب كل من عمد الى اجتذاب شخص أو نقله أو استقباله أو احتجازه أو إيجاد مأوى له. وذلك بواسطة التهديد بالقوة أو استعمالها أو الاختطاف أو الخداع أو استغلال السلطة أو استغلال حالة الضعف، أو إعطاء أو تلقي مبالغ مالية أو مزايا، أو استعمال هذه الوسائل على من له سلطة على شخص آخر بهدف استغلاله أو تسهيل استغلاله من الغير.
ويعتبر استغلالاً إرغام شخص على الاشتراك في أي من الأفعال الآتية: أفعال يعاقب عليها القانون والدعارة، أو استغلال دعارة الغير، إضافة الى الاستغلال الجنسي والتسول...».