لن تستطيع واشنطن التخفي وراء تعنت حلفائها ومواصلتها نفي مساعدة الجماعات المتطرفة في سوريا منذ مطلع 2012، وإمرار الأسلحة والذخائر من ليبيا عبر جنوب تركيا إلى الحدود السورية. كذلك، ليس بإمكان نائب الرئيس الأميركي جو بايدن أن ينفي اتفاق إدارتي أوباما وأردوغان على آليات التعاون، حيث قامت كلٌّ من أنقرة والرياض والدوحة بالتمويل، وقامت وكالة الاستخبارات المركزية التركية، بدعم من الاستخبارات البريطانية، بنقل الأسلحة من ترسانات العقيد معمر القذافي.
غير أن بايدن يمكنه تأكيد أن تنظيم «القاعدة» حصل على معظم الأسلحة التي كانت ترسل إلى سوريا بعدما فقدت واشنطن السيطرة على ما يرسله الأتراك إلى المسلحين الإسلاميين بعد اغتيال سفيرها في ليبيا.
ويمكن التأكيد أيضاً أن إدارة الرئيس باراك أوباما عارضت تزويد قوات المعارضة السورية بصواريخ أرض ـ جو خوفاً من وقوع الأسلحة في أيدي «الإرهابيين»، غير أن قطر أرسلتها بطلب من حليفتها تركيا.
وعام 2013، أدركت الإدارة الأميركية أن «المعارضة» في سوريا بدأت تخسر الحرب. لذلك حاولت الانتقال إلى الخطة (ب). لكن أردوغان اعتبر أن الرفض الأميركي لإكمال تزويد المسلحين بالصواريخ الثقيلة المضادة للطائرات يعني تركه وحيداً في مشروعه، لذلك عملت الحكومة التركية مباشرة مع «جبهة النصرة» وحلفائها على تطوير قدرات الحرب الكيميائية من أجل إشعال حادثة يكون من شأنها إجبار الولايات المتحدة على التدخل المباشر، وهذا ما توجست منه واشنطن ولم توافق عليه.
وصل الصراع الدبلوماسي بين أوباما وأردوغان في ربيع 2013 إلى أوجه حين ظهر التضارب العميق في وجهات النظر خلال عشاء في البيت الأبيض، حضره عن الجانب التركي كلٌّ من وزير الخارجية آنذاك داود أوغلو ورئيس الاستخبارات حقان فيدان. وأوضح أوباما لفيدان أن واشنطن ليست غافلة عن تنسيقه مع المتطرفين في سوريا، لكن أردوغان الغاضب، أنذر أوباما بأن سوريا اجتازت الخط الأحمر، وعلى واشنطن التدخل مباشرةً. هذا الغضب أزعج معاوني أباما واعتبروه تجرؤاً على الرئيس الأميركي.
بعدها، قرر أوباما إنهاء الدعم لمسلّحي المعارضة في سوريا، الأمر الذي يعني ترك أردوغان مكشوفاً سياسياً وعسكرياً. خروج أردوغان عن الإجماع مثل خطراً بالنسبة إلى الأميركيين، ولا سيما أن تركيا هي الطريق الوحيد لدعم المسلحين في سوريا.
لم يمتثل أردوغان. وهو أدرك أنه في حال حسم دمشق الحرب لمصلحتها يمكن أن ينقلب المسلحون عليه، عدا عن خسارته الداخلية التي يمكن أن تقضي على طموحاته الرئاسية. لذلك خطط لتنفيذ هجوم الغاز قرب دمشق في آب 2013. لكن واشنطن علمت بعد استقصاءات شاركت فيها بريطانيا أن غاز السارين الذي استخدم في القصف على غوطة دمشق حينها، لا يمكن أن يصل إلى وجهته من دون الدعم التركي.
أيقن أوباما أن أردوغان سيصبح حليفاً خطراً، إن لم يتقيّد بخطط واشنطن. وأن «فرملة» واشنطن اندفاعها تجاه الحرب ضد سوريا، يضع أردوغان في طريق مسدود، وخصوصاً بعدما حصد الخيبات تلو الأخرى، بعد إسقاط حليفه الرئيس المصري المعزول محمد مرسي، ما دفعه إلى الاستعجال لتسجيل نصرٍ ما في سوريا.
استمر أردوغان في التلاعب بالأحداث على الساحة السوريا لتحقيق أهدافه، وإحدى الوسائل التي كان على وشك استخدامها، ما كشف عنه تسجيلٌ مسرب، استعداد أنقرة لشنّ عملية عسكرية لاجتياح الشمال السوري بحجة حماية قبر جدّ عثمان الأول، سليمان شاه.
ولن يتوقف دعم المتطرفين هنا. إذ يسعى أردوغان إلى إقامة حزام أمني في شمال سوريا تحت مسمّى المنطقة العازلة.
تريد تركيا اجتياح الشمال السوري تحت ذريعة حماية كوباني، بعدما تركتها دول «التحالف» تنهار. وهي تريد، في الوقت نفسه، سحق المشروع السياسي الكردي ومنع قيام دولة كردية على الحدود أو تعديل حدود سايكس ـ بيكو التي رسمت عام 1916.
ليس بإمكان واشنطن القول إنه لا يمكنها ردع أردوغان وجعله يدخل في مشروع «التحالف» بشروطها، ما يطرح تساؤلات حول تأزم العلاقة بين واشنطن وأردوغان وعن خشيتها من عدم ثقة الأتراك بها.
يبقى أن الخلاف مع أردوغان هو، بالدرجة الأولى، حول الأولويات. فالائتلاف الدولي يسعى اليوم إلى التخلص من تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش)، فيما لا تزال أولوية أردوغان هي إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد. إذاً، خطة اجتياح تركيا للشمال السوري لن تكون لمطاردة «داعش»، بقدر ما ستكون لإسقاط النظام السوري، وإحياء المشروع الإخواني مجدداً في المنطقة.
في الوقت عينه، تستعد إسرائيل لإنشاء حزامها الأمني بدعمها «جبهة النصرة» التابعة لتنظيم «القاعدة» الذي ترى خطره أقل من الخطر الإيراني.
بالنسبة إلى تركيا، فهي حالة خاصة لكونها حليفة لحلف «شمالي الأطلسي»، وليس بإمكان الغرب بالتالي أن يضحّي بها وبموقعها الاستراتيجي الذي يصل الشرق بالغرب. ويدرك أردوغان أن أوباما لا يثق بطموحاته التي يعبر عنها علناً، وهو يريد ثمناً باهظاً لمشاركته في «التحالف»، ولا يقبل بالتضحية قيد أنملة بما يعتبره «مصالح تركية».
يدرك جو بايدن أن السعوديين لن ينزعجوا من اتهاماته لأنهم على ثقة بأن كلامه كان موجهاً إلى تركيا وقطر بسبب الفوضى التي أحدثتاها في دعم المتطرفين. والسعوديون لا يثقون بالطموحات التركية، لذلك لم يحركوا ساكناً. وصلت الرسالة التي تفيد بأن القرار هو أميركي أولاً، وما على الحلفاء سوى التنفيذ. وهي رسالة موجهة إلى جميع دول التحالف من دون استثناء.