هل رأيتم طفل بنّش الجميل البريء على اليوتيوب؟ هل استمعتم إليه وهو ينشد بالذبح للنصيرية والشيعة، ويهتف للأمير الجولاني؟ إنها لمأساة أن توأد الطفولة السورية في هذا المستنقع؛ غير أن الأخطر هو أننا في انتظار جيل مشحون بالطائفية، ويرى الذبح لعبة.
يتعامل الإرهابيون التكفيريون مع الأطفال كآلات تسجيل، للترويج لأفكار سوداء. ففي المناطق السورية الواقعة تحت سيطرتهم، يستنزفون المجتمع كله في حربهم المجنونة، الرجال والنساء والأطفال؛ يُخضعونهم بمزيج من العنف والتربية الحقود، مطلقين ومقدّسين الغرائز البدائية، ما قبل الاجتماعية: القتل والسطو والإباحية، باعتبارها الإسلام الحق؛ إلا أننا لا نستطيع أن ننسب هذه الجريمة للإرهابيين وحدهم؛ لقد وجدوا أرضا خصبة، احترثتها، قبلهم، العائلة وقانون الأحوال الشخصية والمدرسة والمسجد والفضائيات؛ فطفلنا يولد، وينشأ، ويتعلّم، ويعمل، ويتزوّج، ويقضي حياته في سياق اجتماعي ــــ ثقافي ينتج الطائفية والتعصب والعنف، بصورة ميكانيكية.
لذلك، لا يمكننا تفكيك ذلك السياق بإصلاح المدرسة فقط، كما لن يؤدي شطب مادة التربية الدينية من المناهج، إلا لزيادة تأثير المؤسسات التربوية الأخرى ــــ العائلة والمسجد والإعلام ــــ على عقول وقلوب التلاميذ، وتكثيف حشوها بأسوأ الميول الدينية والطائفية.
أفهم، بالطبع، الدوافع النبيلة وراء الحملة التي يقودها في سوريا، الاستاذ الجامعي عصام ديبان، لإلغاء مادة التربية الدينية في المناهج السورية، والتعويض عنها بمادة للتربية الوطنية والإنسانية والأخلاقية، غير أنني أعتقد بأن إصلاح منهج التربية الدينية، هو سلاح أكثر فعالية في مواجهة النزعات المتطرفة والرجعية والعنفية والطائفية. وفي رأيي أنها أصبحت مهمة عاجلة، لا تقبل التسويف، رغم الظروف الصعبة التي تعيشها سوريا.
ومن حسن الحظ أن المفكر التونسي الراحل، العفيف الأخضر، قد ترك لنا كتابين بالغي الذكاء والحصافة لإصلاح منهج التربية الدينية في المدارس العربية، هما (1) «من محمد الإيمان إلى محمد التاريخ»،2014 (2) «إصلاح الإسلام بدراسته وتدريسه بعلوم الأديان»، 2004. وكلاهما صادران عن دار الجمل بألمانيا. ويصلح الأول كخلفية منهجية، والثاني كدليل منهجي.
يقرأ العفيف الأخضر، التجربة المحمدية، الدينية والسياسية، في سياقها التاريخي، وبواسطة أدوات العلوم الإنسانية الحديثة. وفائدة هذا النوع من القراءة النقدية تتجلى في القطع مع المنهج السلفي القائم على النصية والتكرارية. فالسلفية تقدّس النص، ولا تتعامل معه كبنية متكوّنة في إطار المكان والزمان المحددين اللذين استدعياها. والقراءة النقدية المزمنة ليست اقتراحاً جديداً، بل هي ممارسة إسلامية قديمة، عنوانها الأول: النسخ، أي نسخ الآيات التي تتعارض مع التطورات أو منطق الدين نفسه، أو تجميد مفاعيلها كما فعل الخليفة عمر بن الخطاب بتجميد حد السرقة في عام المسغبة. أما عنوانها الثاني، فهو التأويل. وأول مَن أطلق حرية التأويل هو الإمام علي بن أبي طالب، حين قال إن «القرآن حمّال أوجه». وهاتان الآليتان، النسخ والتأويل، لا غنى عنهما لإصلاح الإسلام وتحويله إلى دين متوافق مع روح العصر. ويتوقف الأخضر عند التمييز المعروف بين القرآن المكي ــــ بمضامينه الكونية المتسامحة ــــ والقرآن المديني ــــ بمضامينه السياسية ــــ والأخيرة مرتبطة بحقبة تأسيس الدولة الإسلامية، ومختصة بتلك الحقبة، ولا يمكن تكرارها؛ فالتاريخ لا يكرر نفسه إلا كملهاة. وهي، كذلك، حتى لو كانت دموية.
ويتطابق المنظور التاريخي مع المنظور الديني الصرف، فما أباحه الله لنبيه من استراتيجيات سياسية ومناهج حربية، لا يمكن أن يكون مباحاً إلا لنبي مثله. وهو مستحيل اسلامياً، لأن محمد هو «خاتم النبيين».
فكرة امكانية تكرار التجربة المحمدية في الواقع المعاصر، تستلزم الادعاء بأن هذه الفرقة أو تلك هي التي تمثل النبوّة ونهجها، بينما أغلبية أمة الإسلام المتكونة عبر 14 قرنا تعيش في الجاهلية؛ فالتكرارية، إذاً، هي الأساس لكل نزعة تكفيرية أو طائفية.
لم ينجم عن منهج النصية والتكرار أي انجاز فكري حديث في الدين الإسلامي؛ فالجهاد الوطني ليس حكرا على دين أو طائفة، أما سواه فيشكل صورة كاريكاتيرية دموية: الحجاب والنقاب واللحى والزي الباكستاني والحنة وفقه الجنس والتكفير والطائفية والمذهبية والقتل والإرهاب!
يقترح العفيف الأخضر، المضي نحو العقلانية الدينية، بما في ذلك القراءة التاريخية للتجربة المحمدية، والإقرار باختلاف المسلمين، والإقرار بتعدد الأديان، التوحيدية والوثنية، وبدستور علماني للدولة لجميع مواطنيها ــــ بغض النظر عن أديانهم ومذاهبهم وخصوصياتهم ــــ وحصر الشرعية بالقانون المدني، بما في ذلك الأحوال الشخصية، والالتزام بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان وحقوق المرأة والحريات والنظام الديموقراطي، والانفتاح على العلوم الانسانية الحديثة لفهم وتجديد المجتمع والدين والثقافة.