بغض النظر عمّا كانت تعانيه البنى الاقتصادية قبل الأزمة من إشكاليات، فإن الصراع يترك آثاره الكارثية في كل القطاعات الاقتصادية وبنية الاقتصاد الكلّية، لدرجة باتت مهددة بانهيار شبه كامل. ولم يكن بمنأى عن التشوه، فئات وجدت في استمرار الصراع وانفلات الرقابة والقانون، مناخاً مناسباً لممارسة عمليات النهب والخطف والسرقة والتشليح و»التعفيش» فاشتغلوا على فرض قانونهم الخاص، لتغطية وتبرير انتهاكاتهم وظلمهم الذي يوقعونه على فئات اجتماعية واسعة، ما يجعلها تعاني ظلماً واضطهاداً مركباً. ومع استطالة الصراع وتغوّله أصبح ذلك الشكل من الاشتغال يتحول إلى قانون سائد.

وساهم هذا التحوّل في نخر وتشويه جوهر العلاقات الاجتماعية، ولم تسلم من هذا التشويه أشكال الإنتاج والتسويق والتبادل. ولن تقف الأمور عند هذه الحدود من الانهيار، إذ إن تأثيرات الغزو الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، سيكون لها أثراً واضحاً في مستقبل الاقتصاد السوري من حيث البنية والشكل، وعلى مستوى العلاقات الاجتماعية وآليات التفكير ومعيشة المواطن الذي بات يفتقد لأدنى مستويات الأمن الغذائي. فهو بالكاد يستطيع تأمين حاجاته الأساسية التي يتحدد عليها استمرار بقائه البيولوجي.
في هذا النص سنحاول استعراض واقع الاقتصاد الكلي، بالاعتماد على بعض الأرقام والمعلومات التي تضمّنها التقرير الذي أعدته «اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا» في الأمم المتحدة.
لقد خلص التقرير إلى أن عام 2013 هو الأسوأ، إذ شهد تدهوراً في مؤشرات التنمية، واقترن ذلك بتوسع مناطق الصراع المسلّح، وازدياد أعداد النازحين داخل البلد وخارجه، وازدياد حدة الركود الاقتصادي، وارتفاع معدلات البطالة «نتيجة إفلاس عدد كبير من الشركات، وإغلاق بعضها، إضافة إلى تهريب مئات المصانع». وانعكس هذا على مستوى الإنتاج الذي كان ينخفض بوتيرة مستمرة، وتجلى بانخفاض السلع والخدمات وارتفاع أسعار المنتجات المحلية، وتدهور سعر صرف الليرة السورية مقابل العملات الأجنبية، إضافة إلى توسّع هوامش سيطرة السوق السوداء «التي يتلاعب حيتانه بأسواق المال والتجارة». وكان لذلك دور كبير في ارتفاع حاد في أسعار السلع المستوردة.
وقدّر التقرير أن قيمة الناتج المحلي الإجمالي عام 2012 تراجعت بنسبة 28،2%، وفي 2013 16.7%. ويتوقع أن يبلغ عام 2015 نحو 4.68%. وهذا يعني أن الناتج المحلّي الإجمالي الحقيقي (بالأسعار الثابتة لعام 2010) قد انخفض من 60 مليار دولار إلى 56 مليار عام 2011، ثمّ إلى 40 مليار دولار في 2012، وإلى نحو 33 ملياراً في 2013. وتقدّر الخسارة الإجمالية للناتج المحلّي الإجمالي الحقيقي (بأسعار 2010) خلال السنوات الثلاث الماضية بنحو 70.67 مليار دولار.
ارتفعت الأسعار بنسبة 173%
خلال الفترة 2010 ــ 2013


وتشير معطيات التقرير إلى أن الاقتصاد السوري يمر في مرحلة ركود تضخّمي تتجلى في «الكساد والركود وزيادة معدلات البطالة وتراجع معدلات الاستثمار وظهور فائض مالي»، وارتفاع مستويات أسعار المستهلك في الفترة 2012-2013 حتى بلغت 89.62 %، وبشكل خاص أسعار المواد الغذائية والمشروبات التي ارتفعت بنسبة 107.87% في الفترة نفسها. ويعود سبب تسارع التضخّم إلى انخفاض قيمة الليرة السورية مقابل باقي العملات، وارتفاع الأسعار نتيجة ذلك بنسبة 173 % خلال الفترة 2010-2013.
ويقدَّر مجموع الخسائر التي تكبّدها الاقتصاد السوري بين 2011 ــ 2013 بنحو 139.77 مليار دولار، حصة القطاع الخاص منها 95.97 مليار دولار (68.7 %)، بينما القطاع العام، فإن خسائره بلغت 43.8 مليار دولار.
ويشير التقرير إلى أن سوريا بين 1997 إلى 2010 استطاعت أن تُخفّض نسبة من يقل دخلهم عن 1.25 دولار في اليوم من 7.9 % إلى 0.2 %. لكن هذا المشهد تغيّر جذرياً زمن الصراع، فارتفعت مؤشرات الفقر الأعلى والأدنى حتى بات المواطن يعاني فقراً مدقعاً. وقد وصل عدد من هم تحت خط الفقر الأعلى إلى أربعة ملايين شخص (18 %). وهذا يرتبط بارتفاع معدلات البطالة، وتراجع القدرة الشرائية، وانخفاض الإنتاج، وتراجع الواردات والصادرات بسبب الحصار الاقتصادي، وهذا أسهم بدوره في ندرة بعض المواد والسلع، وبشكل خاص الطبية. ولعل أخطر ما تتضمّنه هذه الدراسة هو تقديرات الخبراء بشأن الفقر، إذ من المتوقّع أن يصل خطه الأدنى عام 2015 إلى 59.5 % وخطه الأعلى إلى 89.4 %. وفي حال استمرار الصراع لغاية العام المقبل، سيكون 90 % من السوريين فقراء.
وتتزامن هذه التحولات مع انخفاض احتياطي المصرف المركزي السوري من العملات الأجنبية خلال ثلاث سنوات بنسبة 67 %. وهذا يعني أن استمرار تراجع حجم احتياط المصرف المركزي سيجعل مصير الليرة مرتبط بشكل كبير بمجريات الصراع ومستوى الدعم الخارجي.
ورغم انخفاض قيمة الليرة السورية، فإنه لم ينعكس إيجابياً على القاعدة الإنتاجية، فحجم الصادرات استمر في الانخفاض، ومرد ذلك لا يعود لعوامل اقتصادية فقط، لكنه يرتبط بعوامل سياسية إضافة إلى مجريات الصراع. ويمكن للمراقب العادي أن يلحظ ذلك بوضوح، تحديداً بعد سيطرة «داعش» وبعض الأطراف المسلحة على المنطقة الشرقية (الجزيرة) التي تُعتبر خزّان سوريا الزراعي والنفطي. هذا إضافة إلى تفاقم العجز في الميزان التجاري نتيجة تراجع معدل الصادرات، وانخفاض إنتاج المحلي، والعقوبات المفروضة على التجارة الخارجية والمعاملات الماليّة.
وتقاطع ذلك مع تقلّص الإيرادات الضريبية وعائدات النفط والسياحة وارتفاع الدّين العام وبقاء نسبة الإنفاق الجاري على حالها. وقد تراجعت الخدمات العامة نتيجة التدمير الممنهج لمحطّات الطاقة ومضخّات المياه ومحطّات معالجة الصرف الصحي ووسائل ومحطّات النقل والمستشفيات والمدارس وآبار وخزّانات وأنابيب النفط ومشتقاته.
من جانب آخر، فإن تقديرات الخبراء لعام 2015، تشير إلى إمكانية ارتفاع معدل وفيات الأطفال دون الخامسة إلى 28.8 0%، ومعدّل وفيات الأطفال الرضّع دون عمر السنة إلى 28.7 0. ويُتوقّع أن تنخفض نسبة الأطفال المحصّنين ضد الحصبة إلى 40 %، وأن تنخفض نسبة التحصين بواسطة اللقاحات من 99-100% قبل النزاع، إلى 50 ـ 70% في بعض المحافظات، وشارفت على الصفر في بعضها الآخر.
في ما يتعلق بالقطاع التعليمي يُتوقّع أن تتدنّى نسبة الالتحاق بالتعليم الأساسي إلى 50 %، وإلى 30 % في الصفين الأول والسادس، وأن تكون نسبة كبيرة من الأطفال دون الـ15 ضحايا للأمية. هذا إضافة إلى انخفاض معدل الإلمام بالقراءة والكتابة ضمن الفئة العمرية 15 ـ 24 عن نسبة 94.3% وهذا يتعلق بتراجع نسبة الالتحاق بالتعليم الأساسي من 98.4 % في العام 2011 إلى 70%. وفي عام 2015، يُتوقع أن تبلغ نسبة الإناث إلى الذكور في مرحلة التعليم الأساسي 90.8، وأن تصل إلى 92.5 في مرحلة التعليم الثانوي، و53.6 في التعليم المهني، وأن تنخفض نسبة الإناث إلى الذكور في مرحلة التعليم الجامعي لتصل إلى 76.1%.
إضافة إلى ما سبق، فإن غارات التحالف الدولي وآليات اشتغاله العسكرية، إضافة إلى إمكانية استمرار الصراع، ستساهم في تعميق أزمة الاقتصاد الكلي، وتنعكس بأشكال ومستويات كارثية على القاع الاجتماعي، وتقود إلى أزمات إنسانية يصعب تجاوزها في المستقبل، وتحديداً كونها باتت تنخر أصغر جزئيات حياة السوريين. فالأزمة تترك تداعياتها الكارثية على جميع مستويات وأشكال ومجالات الحياة الإنسانية: العصبية، والنفسية، والجسدية، والذهنية، والفكرية، وصولاً إلى مستويات المعيشة اليومية التي باتت في الحضيض.
* باحث وكاتب سوري