تلفت مصادر مطلعة إلى أن السلطة النقدية تبدو مرتبكة في كيفية التزام «شروط الامتثال الدولية»، أو بالأحرى، تبدو كمن فقد السيطرة على المصارف التي اعتادت الحصول على ما تريد في ظل الرعاية الخاصة التي تحظى بها من مواقع السلطة والنفوذ.
فبعدما تخلى مصرف لبنان عن مركزية دوره في التنسيق مع السلطات الأميركية لتطبيق قانون «فتكا»، وترك لكل مصرف حرية فتح قناة تنسيق خاصة مع سلطات دولة أخرى واتباع إجراءات تخالف القوانين اللبنانية المرعية الإجراء، وفي مقدمها قانون السرية المصرفية، ها هو يستعد للتخلي عن دوره الرقابي في مجال «تأمين الحماية لزبائن المصارف من الممارسات الملتوية وغير الشفافة» عبر ترك كل مصرف ليعالج شكاوى زبائنه على هواه والاكتفاء بدور محايد يضع القواعد العامّة فقط.
تقول مصادر مصرفية إن أبلغ دليل على «الارتباك» في مواجهة قوّة المصارف، هو الخلاف على اسم «وحدة حماية المستهلك لدى مصرف لبنان» المنويّ تشكيلها بهدف تأمين شرط حماية المستهلك في المعاملات المصرفية. إذ إن لجنة الرقابة على المصارف اقترحت أن يكون اسمها «وحدة أصول التعامل مع عملاء المصارف»، فيما اقترحت الدائرة المعنية في مصرف لبنان أن تسمّى «وحدة أصول وقواعد المعاملات المصرفية». الاسمان المقترحان يسعيان إلى الابتعاد عن التسمية المطلوبة، أي حماية المستهلك، لتفادي ترك انطباع محلي عن وجود انتهاكات كبيرة لحقوق عملاء المصارف، ولا سيما الصغار، فضلاً عن أنهما يتركان انطباعاً بأن عمل هذه الوحدة لن يكون ميدانياً، بل يقتصر على «توجيه المصارف نحو تبني مجموعة قواعد تصدر عن مصرف لبنان وتشمل أصول التعامل مع الزبائن أو أصول المعاملات المصرفية والإشراف على تطبيقها، على أن يلي ذلك تعميم تطبيقي وتفصيلي يصدر عن لجنة الرقابة على المصارف ويتضمن شروط التطبيق وآلياته».
ثمة الكثير من الأمثلة عن ممارسات المصارف وانتهاكاتها لحقوق الزبائن

المعروف أن إنشاء مثل هذه «الوحدة» يأتي في إطار تطبيق «الإصلاحات»، التي فرضتها الأزمة المالية العالمية، إذ «تبيّن وجود مستوى عال من الاحتيال في ممارسات المصارف بهدف إغراق الزبائن بالديون أو اقتناص أموالهم». وتقول المصادر إن الرقابة الخارجية على النظام المصرفي اللبناني باتت تفرض إظهار مستوى عال من الشفافية «ولو الشكلية».
يقول المثل الرائج: «أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي أبداً». ينطبق هذا المثل على إنشاء الوحدة المذكورة، ولكن هل هناك استعداد لمنح هذه الوحدة القدرة الكافية على تأمين حماية الزبائن، ولا سيما لجهة فرض الشفافية المطلوبة على المعاملات المصرفية وتوضيح الأكلاف والعمولات واعتماد معايير واضحة لتحديد الفوائد وقبول الودائع وإعطاء التسليفات؟! المتعارف عليه بين زبائن المصارف أن إدارات هذه المصارف تستغل الزبائن الصغار وتخضعهم لشروط تعاقدية تعسفية تخدم زيادة الربحية في المصرف، وأن أحداً من الزبائن الصغار غير قادر على تغيير فاصلة واحدة في العقود التي تفرضها... على عكس ما يحظى به كبار الزبائن، الذين يفرضون شروطهم على المصرف.
يقول مدير في أحد المصارف في بيروت إن هدف أي وحدة من هذا النوع يجب أن ينطلق من توفير الحماية لصغار العملاء، سواء بالنسبة إلى شفافية عقود التسليف والإيداع أو العمولات والرسوم المفروضة على عملياتهم، أو المنتجات التي تُفرض عليهم فرضاً من دون رضاهم. يضيف: «ليست هناك ثقافة مصرفية لدى الزبائن في لبنان، وهناك الكثير من الأخطاء التي تقع من دون أن يكتشفها العملاء ولا المصرف حتى، وأحياناً تكون هذه الأخطاء مقصودة...».
ثمة الكثير من الأمثلة عن ممارسات المصارف وانتهاكاتها لحقوق الزبائن، لذلك لا معنى لإنشاء «وحدة حماية المستهلك» ما لم يكن بمقدورها أن تفرض الضوابط والقيود الصارمة وتقوم بالملاحقة الميدانية للشكاوى وتغريم المصرف المخالف... إلا أن ما هو مقترح، بحسب المعطيات المتداولة عن مشروع مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف، يكتفي بفرض إنشاء قسم لشكاوى الزبائن في كل مصرف عامل في لبنان، وأن يُمنح كل مصرف مهلة تراوح بين 10 أيام و15 يوماً لمعالجة كل شكوى، وأن تقيّد كل شكوى في سجلّ خاص. وفي حال تسجيل موافقة الزبون على المعالجة التي أجراها المصرف ضمن سجلّ الشكاوى، ينتهي الأمر، وفي حال عدم موافقته تذهب الشكوى إلى جمعية مصارف لبنان، حيث تُستكمل معالجتها ضمن مهلة محدّدة أيضاً... وإن لم يرضَ الزبون، فبإمكانه اللجوء إلى القضاء! أما مهمة لجنة الرقابة على المصارف، فهي تكاد تنحصر بمراقبة الأصول التي حددها مصرف لبنان والتعميم التطبيقي الصادر عن اللجنة، فيما هي ستقوم بجولة ميدانية على المصارف كل فترة للتأكد من تطبيق هذه الأصول... وهي لن تتعاطى بأي شكل من الأشكال مع شكاوى الزبائن.
يقرّ مصرفيون بأن المصارف تستخف بالزبائن، وبالتالي قد تجد سبلاً لفرض معالجات لشكاويهم غير منصفة لهم، كذلك باتت المصارف تتحدى سلطة مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف. فمنذ فترة غير قصيرة، أصدر مصرف لبنان تعميماً يتحدث عن الشفافية ومؤهلات العاملين في المصارف، ورغم أن النص النهائي للتعميم جاء نسخة مخفّفة من مسودات سابقة، إلا أن عدداً كبيراً من المصارف لم يتقيّد به، ولم يتعرض أي من هذه المصارف لأي مساءلة. على سبيل المثال، أُلزمت المصارف بذكر كلفة التسليف والإيداع على كل إعلان لمنتج ما؛ نسبة الفائدة، والأكلاف السنوية المستحقة على الزبون... لكن الإعلانات عن المنتجات المصرفية لا تزال تظهر «غريبة، غير واضحة، وخادعة». يشير موظف في أحد المصارف إلى الاتصالات الهاتفية التي يتلقاها «زبائن محتملون» لإغرائهم ببطاقة ائتمان من دون أن يذكر المتصل أن كلفة الفائدة السنوية تصل إلى 20% تضاف إلى كلفة إصدار البطاقة سنوياً... «هذا غش موصوف وممنوع»، يقول.
المطروح إذاً، يناسب المصارف، فهي التي ستعالج شكاوى الزبائن، وبالتالي إن تشكيل «وحدة» بذريعة حماية المستهلك، ليس سوى «زوبعة محلية» في فنجان «الامتثال الدولي».