بغداد | لا تشبه بغداد غيرها من المدن، في قدرتها على الاستمرار وترفّعها عن الجراحات التي تصيب جسدها. يُراد لها أن تموت كلّ لحظة. لكنّها تصحو من ميتتها كلّ مرّة بأضلاع مكسورة وروح امرأة مغدورة تتناسى خيانات الآخرين التي أودت بها إلى مصير لا يصيب إلا المدن الكبيرة التي تملك مكانتها في دفاتر التاريخ وحكايات الخيال الإنسانيّ.
ومن خيانات الآخرين، جيوشاً محتلة وأجهزة مخابرات ودولاً داعمة للإرهاب من الجوار وغيره، وساسة محليّين أفسدوا كثيراً على أرض بغداد، إنّهم جميعاً ضيّعوا ليل العاصمة العراقيّة وقتلوه علانية، فكان الحل الأمنيّ الاضطراري قبل عشر سنوات تقريباً لمجابهة التحدّيات الجسام وزخم التفجيرات هو فرض حظر للتجوال يبدأ عند الساعة 12 ليلاً وينتهي عند 5 فجراً، من ضمن خطّة لتخفيف الانتكاسات الأمنيّة وسهولة الحركة أمام المسلحين والانتحاريّين.
وبدا للجميع إنّ ذلك ليس بالحل الأمثل، إذ كانت المدينة وأهلها والحياة فيها هم جميعاً الخاسر الأكبر، ولم يؤثّر هذا الإجراء في إضفاء أي تحسّن ملموس على الأمن. فالإرهابيون تفنّنوا في ضرب الأبرياء صباحاً ومساء، ولم يضيّق عليهم الحظر كثيراً، في وقت دعا صحافيّون وكتّاب تظاهروا منذ عام 2010 في ساحة الفردوس إلى إلغائه لجهة أنّ معادلات الأمن تبنى على أساس جهد استخباري صرف. وكان لذلك وقعه وأساه في نفوس البغداديّين. يومها وفي «الفردوس» (الساحة الأشهر التي سقط فيها تمثال صدّام نيسان العام 2003)، عزف الموسيقار سامي نسيم مقطوعات على العود، غير إنّ أحداً لم ينصت إليه من رجالات السياسة وأهل القرار في البلاد.
وقبلها كان هناك احتجاج مبتكر قُدّم عام 2006 في عرض مسرحي للمخرج والفنّان مهند هادي عنوانه «حظر تجوال» من تمثيل: رائد محسن، وسمر قحطان. جسد الاثنان شخصيتين من قاع الحياة البغداديّة وهما صباغ أحذية وغسّال سيّارات، يعرضان سأم الناس عبر حياتهما ويومياتهما، في عرض شعبيّ باللهجة البغداديّة، مسعاه الاحتجاج على الواقع العام بلغة ساخرة بعيدة عن الابتذال هدفها التنبيه والتوثيق لهموم وعذابات الإنسان العراقيّ في ظلّ ظروف قاهرة واستثنائية، ومن بينها أحداث العنف والاقتتال الطائفيّ الذي دار ببغداد العام 2006.
لكن مع عدم زوال التهديد والانتكاسات الأمنيّة المتكرّرة، صدر قرار حكوميّ أخيراً يقضي برفع حظر التجوال اعتباراً منذ ليلة السبت الماضي، فعمّ الفرح أرجاء بغداد، ومعه حذر من المستقبل المجهول الذي يحاول فيه السفهاء والبرابرة وضع بصماتهم فيه لوأد الأمل بحياة هادئة وآمنة.
وفي محصلة «الفرح المستقطع»، كانت معزوفات الموسيقار كريم كنعان وصفي (قائد الأوركسترا السيمفونيّة الوطنيّة العراقيّة) على رصيف الشارع في «الكرادة داخل» وسط بغداد، أعلى من الخوف والتردّد البغداديّ، فخرج الناس منذ الساعة 12 ليلاً إلى الشوارع محتفلين مبتهجين بعفوية، وأي مصادفة حين يتجمهر المحتفلون بليل بغداد تحت مأثرة «نصب الحريّة» للفنّان جواد سليم (1921 ــ 1961) في الذكرى الـ 54 لرحيله ولإزاحة الستار عن عمله الخالد.
إنّها المرّة الأولى التي تشاهد فيها طفلة تلوّح للمارّة من سيّارة أبيها عند الواحدة ليلاً، وهي المرّة الأولى التي تعلن فيها إحدى الإعلاميات عبر تغطية مباشرة لقناة «العراقية» بشأن الحدث: «ليكن للمرأة حصّة من ليل بغداد. أمنوا لها السلامة لكي تخرج وتفرح مع أهلها وأبناء بلدها».
شباب بتسريحات شتّى وعائلات تخرج إلى الشارع لتقيم صلة جديدة بالمدينة وليلها «الأسير» الذي عادت له حريّته.
غريب أمر هذه المدينة. شيّعت صباح السبت عدداً من الشهداء وسقط فيها قسم آخر من الجرحى بتفجيرات أيضاً. لكنّها تمنح الريادة للفرح وتصارع الموت وصنّاعه، كأّنّ الصورة التي رسمها الشاعر صادق الصائغ تستعاد اليوم بحذافيرها في قصيدته «هُنــَا بَغْـدَاد»: «مـَديـْنَة ٌعَجيبَة/ أهِـلـَتـُها دائِمَاً ثَـَمِلـَة/ ونُجـُومُهَا سَكـْرانـَة/ ومَعَ انَها ضُربَت بالقـَنابل/ وسُحِقَت تـَحتَ الأقـْدام/ كَمَا تـُسْحَق ُسَاعَة ٌمُعـَطلَة/ فـَقـَد ظـَلَت تـَتك/ وكأنَها وُلدَت لِلتـَو/ مُرسِلَة ًمِن الأنـْقاض/ مَعَ رَاديو الإذاعَة المُغَرِّد/....هـُنا بـَغـْداد/ هُنا بـَغـْداد».