«لا نريد رمي اليهود في البحر، ولا حكمية الأمم المتحدة، بل يجب أن يقرر الشعب الفلسطيني مصيره بنفسه. ومشروع إيران لحل القضية الفلسطينية منطق بيّن، ومنطبق مع الأعراف السياسية المقبولة لدى الرأي العام العالمي. نقترح استفتاء الشعب الفلسطيني لتقرير مصيره بنفسه ولتقرير نظامه الحاكم كأي شعب آخر. ويجب أن يشارك كل الفلسطينيين الأصليين، من مسلمين ومسيحيين ويهود، في استفتاء عام ومنضبط ويحددوا مصير دولتهم». الكلام لزعيم إيران السيد علي الخامنئي، أي زعيم أكبر دولة إقليمية منخرطة في أكبر مشروع مواجهة مع إسرائيل والولايات المتحدة في المنطقة، وراعية أكثر حركات المقاومة إزعاجاً لإسرائيل في لبنان وفلسطين، وداعمة للنظام في سوريا، وهو النظام العربي الوحيد الذي لا يزال يرفض التسوية مع إسرائيل، ويوفر جسر الدعم النوعي بين إيران ومقاومتَي لبنان وفلسطين.
إذاً، المقاومة لا تريد إلقاء اليهود في البحر. هذه العبارة، سيكون من الصعب العثور عليها في أدبيات قوى المقاومة الراديكالية منذ قيام إسرائيل. بل سيكون من الصعب، أيضاً، العثور عليها الآن في قنوات التواصل الإعلامي؛ لأن من يملك النفوذ في هذه الساحة العالمية لن يكون مناسباً له إسقاط واحد من أبرز العناوين الثقافية والنفسية التي عملت المؤسسة الصهيونية على ترويجها في العالم، بغية كسب التأييد الإنساني من شعوب العالم، إلى جانب التأييد السياسي والعسكري من حكومات الغرب الاستعماري.
في لحظة معينة، قد يبدو للبعض أن إعلاماً من هذا النوع يعكس قدرات استثنائية لدى تيار المقاومة على إنهاء إسرائيل، أو كأن الحرب توشك على وضع أوزارها مع انتصار حاسم لقوى المقاومة. وهذه النقطة، بالتحديد، التي ستستفز إسرائيل والغرب وتياراً عربياً رافضاً لفكرة المقاومة، ومبرراً لخضوعه بأنه لا يوجد من يقدر على هزيمة إسرائيل.
إلا أنه قد تكون مفيدة قراءة مقترح إيران بطريقة مختلفة. فيمكن القول:
إن تيار المقاومة الحالي الذي ينخرط في حرب مفتوحة ضد إسرائيل منذ ثلاثين عاماً، وحقق إنجازات نوعية في العقد الأخير، يجد نفسه معنياً بوضع تصور سياسي لما يعتقد أنه الحل، ربطاً بأي تحرير للأرض. وهي عادة غريبة عن الثوار الذين يقاومون احتلالاً، فلا يكونون معنيين بعرض برنامجهم للحكم في بلدهم، ولا بعرض تصورهم لعلاج الواقع السياسي وغير السياسي لخصومهم. علماً بأن المقاومة في لبنان قدمت نموذجاً في عام 2000، عندما رفضت منطق الحكم الاستئصالي أو المحاكمات الشعبية العامة على أثر التحرير الكبير.
إن التصور الذي أعلنه السيد الخامنئي لمستقبل الدولة الفلسطينية، يشير إلى أن هناك من يريد التخلص من النظام الصهيوني الحاكم على أرض فلسطين التاريخية. والمقترح يعرض بداية للحكومات والقوى النافذة في العالمين العربي والإسلامي، وهو لا يدعوها إلى واجب خوض الحرب المفتوحة مع إسرائيل، بل يحضها على تبني فكرة سياسية لا تتطلب حرباً دموية واسعة. وهو مقترح يقوم على فكرة الديموقراطية الغربية من خلال فكرة الاستفتاء بمشاركة الأبناء الحقيقيين لفلسطين التاريخية.
إن هذا التيار يغادر، صراحة، من موقع القوة لا من موقع الضعف، العقلية الاستئصالية لناحية الحديث عن عدم إلقاء اليهود في البحر. وبالتالي، يعلن، ضمناً، أن أي تحول على الأرض لا يستدعي ارتكاب مجازر بحق المستوطنين اليهود في أرض فلسطين.
وهذا المقترح يقرّ، ضمناً، بحق اليهود العرب الذين انتقلوا للعيش في فلسطين خلال عقود العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي في التجمع للعيش في دولة عربية واحدة. أو يعيد لهم الحق بالعودة إلى دولهم. وهو يرتكز، أساساً، على فكرة صياغة جديدة للنظام، شرط استعادة الحقوق للفلسطينيين بالحرية والعودة. وإن مجرد إلغاء نظام الفصل العنصري القائم حالياً يمنع الكثير من المشكلات التي يعانيها الشعب الذي احتلت أرضه وطرد منها بقوة النار.
والمقترح الذي عرض في سياق مراجعة لتاريخ المواجهة مع إسرائيل، فيه تجاوز هو الأول من نوعه للإرث السياسي والنظري الذي عملت عليه منظمة التحرير الفلسطينية طوال عقود. وفيه إعادة اعتبار إلى الشراكة الحقيقية، والطبيعية، للعالمين العربي والإسلامي في تحمل المسؤولية عن هذا الصراع. وهو يشدد على أن عنصر القوة، بيد أصحابه، يمثّل شرطاً حيوياً. ومع أن السيد الخامنئي قال إن إسرائيل لا تخشى الصواريخ، بل إرادة الناس، أكد جهوزية القوى الداعمة للمقاومة أو المنخرطة فيها، من خلال القول إن الصواريخ ستكون جاهزة للقيام بدورها.
للمرة الأولى، منذ زمن بعيد، يلجأ الطرف المقاوم إلى مقاربة نوعية لأكثر القضايا مركزية. وهو نقاش أهم بكثير من كل نقاش آخر تناول دور الغرب في قيام إسرائيل أو حقيقة المحرقة التي تعرض لها اليهود على أيدي الأوروبيين. إنه في حقيقة الأمر أول علاج إسلامي واقعي للمسألة اليهودية في المنطقة، يأخذ في الاعتبار أن الغرب الاستعماري غير مهتم إلا بالصراع الأبدي بين اليهود والمسلمين، ما يوفر لهذا الغرب البقاء على ضفتي الصراع تحريضاً وتفتيتاً.