عندما انطلقت الثورة في سوريا عام 2011، أخذت الدولة اللبنانية الخيار الأسهل. نأت بنفسها عما يحدث، متجاهلةً الجغرافيا والتاريخ وتأثيرهما القوي في الأزمات. المنفذ الأقرب للسوريين كان لبنان، فبدأت موجة اللجوء التي استقرت أخيراً على مليون و100 ألف لاجئ. إهمال الدولة في التعامل مع هذه الأزمة وصل إلى حد تسليم «مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين» كل الأمور المتعلقة باللاجئين والتنصل من دورها.
بعدما طالت الأزمة، وهو ما لم تكن تتوقعه الدولة ولا المنظمات الدولية، علت الأصوات المنتقدة للدولة جراء عدم وضعها سياسات للتعامل مع الصدمة التي ضربت البلد. تناسى هؤلاء أنّ «عدم اتخاذ أي سياسة هو بحد ذاته سياسة»، وفق ما يقوله الوزير السابق شربل نحاس. بعد 4 سنوات، أصبح من واجب الدولة أن تبحث في الآثار الاجتماعية والاقتصادية للجوء السوري، وهو ما تناوله مؤتمر «الجمعية الاقتصادية اللبنانية» ومؤسسة «فريديريش ناومان من أجل الحرية» أمس.
لا يمكن دراسة تأثير الأزمة السورية على لبنان بشكل دقيق نظراً إلى غياب المعطيات الموثوقة، لذلك فإن التأثيرات تندرج في سياق التقديرات. يتحدث رئيس الجمعية الاقتصادية اللبنانية الدكتور منير راشد عن بعض تأثيرات الأزمة السورية على الاقتصاد اللبناني، أولها ازدياد البطالة بعدما اقتحم اللاجئون السوق، وخصوصاً على مستوى العمالة غير الماهرة. كذلك «شهد لبنان تراجعاً في النمو من 5% إلى 1 و2%، عدا عن الضغط الكبير على الإيجارات بعدما ازداد الطلب فجأة، ما أدى الى مزاحمة بين اللبنانيين والسوريين على السكن».

أولويات الـ NGOs
ليست أولويات المجتمع المحلي، إنما أولويات الجهات المانحة
أما في ما يتعلق بالنتائج الاقتصادية، فقد «تراجع الميزان التجاري بعدما كان 14.6 مليار دولار عام 2012، وانخفضت الاستثمارات المباشرة وأصبح ميزان المدفوعات سلبياً». يقول راشد إن «الاقتصاد اللبناني يخسر سنوياً 5 مليارات دولار بسبب الأزمة السورية». ويلفت راشد إلى مسألة ازدياد العبء الضريبي الناتج من تراجع العائدات، التي أثرت المساعدات عليها حيث إن معظم المساعدات معفاة من ضرائب الجمارك والقيمة المضافة، في حين ازداد الإنفاق بشكل كبير. من جهة أخرى، كان للجوء السوري نواحٍ إيجابية، وهو ما تعمل المنظمات الدولية اليوم على إبرازه عبر تخصيص دراسات لتقويم التأثير الإيجابي للجوء. يحدد راشد أنه نتيجة اللجوء، ازداد الطلب على السلع والخدمات، فانخفضت كلفة الإنتاج وازدادت استثمارات رجال الأعمال السوريين وارتفعت التحويلات المالية.
مع امتداد عمر الأزمة، ستخسر الجهات المانحة حماستها للتمويل والمؤشرات توضح ذلك. تؤكد كوثر دارا، نائبة رئيس الجمعية الاقتصادية اللبنانية، أن المناشدات التي قدمتها منظمات الأمم المتحدة لم تجد تجاوباً مقبولاً، فتراجع التمويل بشكل كبير كما تراجع عدد الجهات المانحة حيث لم تحصل المنظمات سوى على 3.4 مليارات دولار من أصل 8.4 مليارات دولار. وتلفت دارا الى أن هناك 5 دول تقدّم أكثر من 50% من المساعدات وهو ما يدفع الى القلق، إذ مع انخفاض عدد الجهات المانحة، ترتفع احتمالات فرض أجندات معينة. تقول دارا في ما يتعلق بتنظيم عمل الجهات الفاعلة إنّ المفوضية كان لها الدور الأساسي سابقاً، أما اليوم فينتقل هذا الدور الى برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بعدما صُرفت جميع الأموال على الإغاثة من دون الالتفات الى المجتمعات المضيفة. الفوضى التي تعم «قطاع» الـ NGO›S لا يمكن أن تستمر، فتوضح دارا أن «نمط التسييس لدى هذه الجمعيات يزداد، كما أن أولوياتها ليست فعلاً أولويات المجتمع المحلي إنما أولويات الجهات المانحة، عدا عن أنه ليس هناك سلطة تنظم عملهم، وبالتالي فإن المساعدات المتدفقة لا تمر بمعظمها عبر الحكومة، ما يخلق مساحة كبيرة من الفساد».
ويحدد الوزير السابق شربل نحاس 3 سيناريوات طُرحت للتعامل مع الأزمة: السيناريو الأول، الذي أثبت فشله، هو ما خرج به المسؤولون عن أن الحسم في سوريا سيكون سريعاً. السيناريو الثاني هو أنه عندما تنتهي الأزمة سيعود اللاجئون الى سوريا، إلا أنه «كلما مر وقت أطول، انخفض عدد الذين يريدون العودة»، وخصوصاً أن سوريا مدمرة والمجتمع السوري سيعيش صدامات قوية. السيناريو الثالث هو ما يتخيله رجال الأعمال عن «موجة إعمار» لسوريا بعد انتهاء الأزمة، يلفت شربل الى حديث جدي يجري بشأنها.
لكن، كيف كان على الدولة أن تتعامل مع «النازحين»؟ يقول نحاس إنه كان لا بدّ أولا من اتباع سياسة انتقائية (حسب العمر، المستوى التعليمي…) في استقبال «النازحين». ثانياً، كان على الدولة أن تؤمن حاجاتهم بشكل منعزل عن البنية التحتية للبلد كي لا ينعكس ذلك على اللبنانيين، أي تأمين مدارس ومستشفيات خاصة لهم. يُنهي نحاس أنه «بموازاة التبدل العميق في المجتمع السوري، يحصل تبدل في البنية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع اللبناني، ما سيحدد نوع العلاقات التي ستنشأ لاحقاً بين المجتمعين».