الاتجاه العام للأحداث في العراق وسوريا بات واضحاً. لا بل مؤكداً. الدولة المركزية الواحدة سقطت في كل من بغداد ودمشق. لا عودة إليها قطعاً. هذا ما يريده أهل البلدين، بأقدامهم وأفواههم وأصابع الأزناد. رغم أي كلام لفظي مغاير. وهذا ما يخطط له أعداء البلدين. اكتملت إذن مقتضيات الأمر، داخلياً وخارجياً. لم يعد ينقص في الواقع غير مسألتين تفصيليتين، وفي التحليل إلا سؤال عن لبنان.
المسألة الأولى التي تبدو عالقة هي صيغة «التفكيك». والظاهر أن ثلاث صيغ مطروحة للتجربة على النار الفعلية. الأولى تمثل الحد الأدنى من تغيير طبيعة الدولة الدستورية. وتقضي بقيام جماعات كلية ضمن دولة واحدة، محمية بوصايات خارجية. أي شيء من النموذج اللبناني. حيث الدستور ينص بوضوح على وحدة نظامه، وحتى على مركزية حكومته. فيما الواقع أن ثمة جماعات تامة داخل الدولة، تشكل دويلات شبه مستقلة بإدارات ذاتية مكتملة، محمية بنفوذ خارجي. هذه الصيغة «التوافقية على القاعدة الشخصية»، تمثل أدنى درجة في سلم التفكيك. وهو ما يفترض اعتمادها قبل الذهاب بعيداً في الصراعات الانقسامية. لذلك تبدو التطورات العراقية والسورية وكأنها قد تخطتها. لكنها تظل نظرياً صيغة مطروحة للحلول. على الأقل حتى إنجاز المشهد النهائي وإعلان ما رست عليه المؤديات.
الصيغة الثانية لمواءمة واقع الاجتماع السياسي والديني للدولتين، مع نظاميهما، تطرح الفدرالية. أي ثنائية مركز فدرالي وأقاليم مفدرلة. مع شراكة عادلة في المركز وحق نقض متبادل في الأساسيات. صيغة باتت ناجزة في العراق. وإن لم تحقق سلامه المطلوب. ذلك أن الفدرالية كانت علمياً وتاريخياً وفق نموذجين وسرعتين. في المجتمعات التي تستدخل الديمقراطية في ثقافتها ووعيها، شكلت الفدرالية مرحلة وسطية للانتقال من الانقسام إلى منظومة الدولة الواحدة. أما في المجتمعات الأقل تمرساً على الديمقراطية، فكانت الفدرالية خطوة معاكسة، للذهاب من الدولة الواحدة إلى الدول المنفصلة كلياً. لذلك قصرت فدرالية العراق عن تأمين سلامه. لا بل بدت وكأنها محطة أولى على طريق الانفصال. انفصال باتت تشي به سلوكيات القوى العراقية الثلاث، شيعة وسنة وكرداً. مع فارق لا بد من لحظه هنا، وهو مدى ملاءمة هذا الطرح للمصالح الإيرانية. وهو ما يبدو أنه عرقل مسار التفكيك العراقي طيلة أعوام، أو آخره حتى الآن.
أما فدرالية سوريا فقد تكون أكثر سهولة في الشكل. تكفيها خارطة الانتداب الفرنسي من جهة. ومصالح تركيا أو أطماعها في الدولتين، من الموصل إلى حلب، من جهة ثانية.
تبقى الصيغة الثالثة، أو الانقسام الكامل والتقسيم الدولتي الناجز. صيغة قد تبدو أكثر تعقيداً. لكن الجلي أن أحداً لا يستبعدها. البرزاني قاربها علناً في البيت الأبيض. ورد فعل سنة العراق على قرار الكونغرس الأميركي بالتعامل معهم كوحدة مستقلة، لا يخفي طموحاً مماثلاً. فيما تعامل شيعة العراق مع الدولة التي حكموها منذ 12 عاماً، لا يظهر أن وجدانهم متمسك جداً بعراق صدام حسين وكل أسلافه منذ كربلاء.
المسألة الثانية المطروحة، أو التي يبدو أنها لا تزال عالقة، هي الحدود. أين توضع الخطوط الجديدة؟ وإلى أي مرتكزات تستند؟ هل تكتفي بحدود نفوذ القوى الخارجية؟ وفي هذه الحال، أين تتوقف مثلاً مطامع النفوذ العثماني المتجدد في شمال غرب العراق، وفي الشمال السوري؟ وأين تعتبر طهران أن أمنها الخليجي يتأمن في عمقه العراقي الاستراتيجي؟ أم ترتكز الحدود الجديدة على انقسامات «الجماعات الدولتية» الجديدة؟ وفي هذه الحال أين تكون حدود السنة والشيعة والعلويين والدروز في سوريا مثلاً؟ يبقى عامل ثالث لتظهير تلك الحدود، هو عامل القوة والنار والدم على الأرض. بحيث يكون نفوذ هذه الدولة أو تلك، وانتشار هذه الجماعة أو تلك، وفق القوة العسكرية، أي في الواقعين العراقي والسوري لسوء الحظ، وفق القوة التطهيرية والإبادية والترانسفيرية للآخر.
أما السؤال المتعلق بلبنان، فهو بسيط منطقي: كيف تنعكس هذه الخريطة الدولتية السياسية الطوائفية النفوذية الجديدة على المشروع الدائم للوطن اللبناني؟ في هذا السياق تبدو الاحتمالات محدودة وواضحة. إما أن تحافظ سوريا الحالية، بحكمها ونظامها الراهنين، على كامل الغلاف السوري المحيط بلبنان، من جبل الشيخ حتى عكار. وإما أن تخسر قسماً منه، أو كله، لصالح الدولة الداعشية أو دولة «القاعدة ـــ فرع الجولاني». وفي تلك الاحتمالات كافة، لن يكون المشهد الجديد، ولا موازين القوى المنبثقة منه، لصالح أي من القوى اللبنانية الرئيسية. ولنسمها، كي لا يخطئ أحد في الحسابات والأوهام والرهانات. إن أياً من تلك الاحتمالات لن تلائم السنة، ولا الشيعة، ولا الدروز، ولا المسيحيين. على الأقل، من ضمن الإجماع المفترض لهؤلاء على صيغة ميثاق العيش المشترك. المسيحيون بدأوا يدركون ما يحصل وما قد يأتي. وما ملامح التوافق على الأساسيات، بين بكركي، عون، جعجع وفرنجيه، إلا دليلا على ذلك. لكنه إدراك غير كاف لهم، ولا لسواهم من اللبنانيين. وليد جنبلاط، يبدو من جهته مستشرفاً للخطر أيضاً. ورد فعله الأولي نصيحة للحريري الابن ولفريقه الداخلي والخارجي، أن أعطوا المسيحيين، سلّفوهم الآن، في الرئاسة وفي الجيش. فكلنا سنكون في حاجة إليهم وإلى دورهم في الموقعين في المرحلة المقبلة. أقله كواقي صدمات وصدامات بين النفوذين الإقليميين المقبلين على سوريا، بتداعياتهما داخل لبنان.
تبدو المعادلة منطقية. لكن هل من حيز باق للمنطق وسط كل هذا الجنون؟!
7 تعليق
التعليقات
-
الوحدة هي الحل الحقيقيالحل الحقيقي لمشاكل العراق وسورية ولبنان والدول العربية الأخرى، التي ستطفو المشاكل نفسها فيها إلى السطح إن عاجلا أو آجلا لتشابهها، هو أن تقوم هذه البلدان على أساس المواطنة بغض النظر عن الدين، أو الطائفة، أو المذهب، أو الإثنية. على المدى القصير ربما تستمر الحروب الأهلية هناك وهناك، وربما تتحول لاحقا إلى أشكال أقل عنفا مما هي عليه حاليا. لكن، الشعوب العربية ستدرك بكل طوائفها في وقت ما أن الجميع عاش مع الجميع منذ آلاف السنين، وستدرك أن الطوائف والجماعات الدينية والإثنية التي عاشت في المنطقة منذ آلاف السنوات ستعيش فيها لآلاف أخرى من السنوات، وستدرك أن الحرب ليست هي الحل، وأن العنف يجر العنف، والدم يجر الدم، والثأر يجر الثأر، وأن الطريقة الوحيدة لكي تحيا هذه البلدان وتتوحد هي اعتراف كل مكون من مكونات بلد ما بالأطراف الأخرى ومعاملته على أساس المواطنة. ستدرك هذه الشعوب وقواها الحية ذات يوم أن الحل الوحيد هو العيش في وطن واحد، وستعرف أن قوتها تكمن في تنوعها ووحدتها في الوقت نفسه، وستنتهي قوى الظلام لأنها لا يمكن أن تبقى في القرن الواحد والعشرين بمفاهيمها الوحشية البلهاء، وستعود الأمور إلى ما كانت عليه وربما أفضل. أنظروا إلى لبنان الذي مر بهذه التجربة المريرة لمدة 15 أو 19 عاما وما زال واقفا على رجليه.
-
مقال غير موفقربما كان المقال الأول الذي أقرأه للعزيز جان، الذي لم يكن موفقاً به. عندما يتحدث الجميع عن التقسيم، يجب أن نتحدث نحن عن الوحدة. إن كانت هذه الحدود ستتغير، فلتتغير كما نريد ونشاء نحن أبناء المنطقة، لا كما يريد أعداؤها. والوحدة لا تعني احتلال البلد الأكبر للبلد الأصغر، ولا تعني "وصاية"، ولكن تعني مساواة في كل شيء، لنا ما لهم، وعلينا ما عليهم. الوحدة يجب أن تكون تحت شعار "وحدة المصالح"، لا وحدة اللغة، ولا الدين، ولا الجغرافيا. عبر وحدة المصالح، يمكن للروسي والإيراني والصيني واللاتيني أن يكون على أرضنا، ضمن حلف إقليمي ودولي وعالمي. أما عن عملاء الداخل، الساعين للتقسيم، والمدعومين من الخارج، والمغسولي الأدمغة، والذين أصابتهم لوثة الطائفية، فهؤلاء، وبعد كل ما جرى، وبعد كل هذا الزمن الذي مضى، لن يجمعنا معهم إلا ساحات الوغى، فإما هم وإما نحن. هم غزونا في عقر دارنا، بناس منا، فليس أمامنا من حل آخر. هم يبيدون كل ما يأتون عليه، فليس من حل آخر معهم إلا المقاومة والطرد والقتل، لا العفو ولا المغفرة لأننا لسنا آلهة ولا أنبياء. أحد أبناء يوغوسلافيا السابقة قال لي مرة، أنه حتى اليوم لا يعترف إلا بيوغوسلافيا، ولا يعترف بالدويلات الصغيرة التي فرضت عليهم، وأجبته أنني أنا أيضاً لا أعترف بدويلات البوسنة والهرسك وصربيا، فقط يوغوسلافيا. فيتنام توحدت بعد حرب طويلة مع أمريكا، وفيتناميو أمريكا هربوا إلى أمريكا وفتحوا مطاعم فيتنامية. هل علينا نحن أن نهرب أيضاً ونفتح مطاعم لبنانية وسورية في الغرب بعد أن قسمونا وبعثرونا في الأرض؟
-
مقال إنهزامي من الدرجه الأولىمقال إنهزامي من الدرجه الأولى يا أستاذ جون، بدي أذكرك الأسد ما زال يزأر والنصر بعده محله والمعركه بعدها ما خلصت. ولو يا أستاذ!!
-
الاستاذ الكبير الذي نقدرالاستاذ الكبير الذي نقدر كتابته عاليا لا نعتقد بأنه لا يعلم أن غالبية الشعب السوري المطلقة لا تريد أي نوع من انواع التقسيم وانها ليست طائفية التفكير، وللدلالة على ذلك نذكره بأن من نزحوا من حلب وادلب وحماة ودير الزور وحمص، ومن بينهم من لهم ابناء وازواج واخوة منخرطين في الفصائل الإرهابية، لجأوا الى المدن والقرى الساحلية التي يقاتل ابناؤها مع غيرهم من مكونات الشعب السوري ضد هذه القوى التكفيرية ومع ذلك لم يلق هؤلاء النازحون والمهجرون الا كرم الضيافة، لا بل كادوا أن يسيطروا على الكثير من اسواق العمل والتجارة في طرطوس واللاذقية وغيرهما من المدن، وكذلك فان من يجلس في مقاهي دمشق الشعبية يذهل عندما يجد أن العديد من أبناء هذا المذهب أو ذاك يسعى ويتوسط جاهدا لاطلاق سراح معتقل من ابناء المذهب الآخر، وللعلم فإن الحديث بالوضع الطائفي في سورية لم يعد مما يدعو للخجل كما كان قبل الأزمة الحالية، ويتم التداول به بكل شفافية مع الرفض المطلق لأي نوع من التقاسم الطائفي للدولة الواحدة، ولا نعتقد بأن الاستاذ جان لا يتذكر أن فرنسا حاولت بعد اكتمال احتلالها تقسيم سورية على أسس مذهبية، فحاربها الجميع وأولهم المكونات التي يسمونها اقليات الآن، ويحاول البعض اتهامها بالسعي للانفصال، ومهما عملت القوى الخارجية على التقسيم فلن يفلح - في اعتقادي - لأنه مرفوض شعبيا، وإذا ما فرض بأي شكل من الأشكال فلن يعمر الا لسنوات قليلة إن لم يكن لأشهر، وسيلقى ما لقيه السعي الفرنسي ابان الاحتلال
-
تقسيم العراق وسورياالحقيقة هذة اول مرة اعلق فيها على موضوع يكتب بجريدتكم مع اني متابع جيد للاستاذ جان عزيز ومعجب بارائة استراتجية الدولة الامريكية ومخابراتها مبنية اساسا تفتيت المفتت ,وتقسيم المقسم ,وتحطيم المجتمعات اذا امكن وتاليا يقو ل بنغوريون في مذكراتة :ان بقاء ووجود اسرائيل مرتبط بشكل مهم بتحطيم جيوش ثلاث دول هي مصر اولا وهذا حصل بتكبيل مصر بمعاهدة كمب ديفيد والان ليس تحطيم الجيش السوري والعراقي فقط وانما نسف الدولة من اساسها بتقسيمها والاتي اعظم سوف نعود الى مضارب الخيم والحبل على الجرار كما يقول المثل
-
انهزامية النخبإرادة الأميركي ليست قدر إللاهي يا استاذ جون، ما لم تسقط دمشق و لو احتلو سوريا كلها لن تِقسٌم سوريا. نحن في حرب طويلة، و تذكر كل ما اكتسبه الإرهابيون في الأسابيع الماضية كان تحت سيطرتهم بين ٢٠١٢ و ٢٠١٣ بل أسوأ من ذلك كانت دمشق محاصرة و كانوا يعدون العدة للإنقضاض عل قصر المهاجرين .... دمشق لن تسقط. و بدل ان تستسلم لقدر أوهمته الانهزامية فكّر من الآن كيف سيبني جنرالك لبنان.