ليس لدى السعودية ما تعتذر عنه في وثائق «ويكيليكس». خارجيّة آل سعود أعلنت أن ما جاء في تلك الوثائق «لا يخرج عن إطار السياسة المعلنة للمملكة بشأن مختلف القضايا»، وهذا صحيح تماماً. فالفضيحة تلحق بالآخرين الذين يلهثون وراء البترودولار، خانعين، أذلاّء، متنكرين لكراماتهم وذواتهم. وهنا، نخصّ منهم المسيحيين الذين يتنكرون، أيضاً، لوجود المسيحية المشرقية ومستقبلها، ويسلّمون المسيح لجلاّديه بثلاثين من الفضة.
يمكن لسمير جعجع أن يضع نفسه في تصرّف ملك الرمال، لأنه «مفلس»، ويمكن لأمين الجميّل أن يبيع مكانته كرئيس سابق للبنان، وينتظر توجيهات خادم الحرمين، ويمكن لميّ الشدياق أن تلتزم بقلع الصليب عن صدرها لقاء وعد بدعم «مدرسة الإعلام الحر»... لكن هؤلاء، وسواهم من مسيحيي السفارة السعودية، لا يمكنهم الادعاء، بعد، بأنهم مسيحيون، لا في الإيمان ولا في الثقافة ولا في السياسة. هؤلاء أتباع يهوذا الاسخريوطي، بائع المسيح، سوى أنهم لا يملكون ضميره؛ فالإسخريوطي انتحر ندماً.
بين المملكة الوهّابية والمسيحية المشرقية تناقض وجودي، لا مجال فيه لمصالحة أو تفاهم أو صلات. فالسعودية تتبنّى نهج استئصال الوجود المسيحي في المشرق والعالم العربي كاستراتيجية مؤسسة على فقه ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب. لن نتحدث عن الهدم المنهجي للكنائس الأثرية في الجزيرة؛ فالوهّابيون هدموا التراث المعماري المحمدي أيضاً. لكن نتوقف مع الفتوى التي أصدرها مفتي السعودية، عبدالعزيز آل الشيخ، بـ «هدم جميع الكنائس في منطقة الشرق الأوسط»، إلزاماً وفوراً، وبغض النظر عن إرادة الحكومات. أليس هذا ما تفعله «داعش» و»النصرة» و»جيش الإسلام» في العراق وسوريا؟ بالطبع، لم يفتِ آل الشيخ بهدم الكنائس في الغرب، ديار سادته الكفّار، وإنما في ديار الإسلام التي لا تقبل ديناً آخر سوى الإسلام الوهّابي.
دعونا من «ويكيليكس»؛ فلدينا نص سعودي رسمي يحذّر زوّار المملكة من اصطحاب «المواد المسكرة والعقاقير المخدرة، والمواد والمطبوعات المخلّة بالأداب العامة، وجميع المطبوعات التي تمس بالإسلام»... وفي مقدمتها الإنجيل. فالمطبوعات الإنجيلية (باللغة العربية طبعا؛ وليس بلغات السادة المستعمرين) تساوي، عند آل سعود، المطبوعات المخلّة بالآداب، وعقوبة اقتنائها الإعدام! إنما، والحق يُقال، أن احتفال الأسر المسيحية (العربية) بعيد الميلاد، بين جدران المنازل، لا تستوجب الإعدام، بل المداهمة والاعتقال والترحيل.
موّلت السعودية ودعمت، بناء على فتوى صارمة، خطة «القاعدة» منذ 2004 لتفجير كنائس العراق، والاعتداء على أصحابها ومطاردتهم وقتلهم ودفعهم للهجرة. وهو ما تفعله، منذ العام 2011، في سوريا، وستفعله إذا ما قُيّض لأدواتها الإرهابية الاستيلاء على مناطق مسيحية في لبنان والأردن.
المملكة الوهّابية، في هذا المجال، لا تتبع سياسة تكتيكية أو غامضة، وإنما تتبنى استراتيجية واضحة وعقيدة راسخة لا تخجل منها، هي، نفسها، عقيدة صالبي المسيح، عقيدة التقليد التلمودي التوراتي المتسلسلة من إسرائيليات كعب الأحبار إلى ابن تيمية والوهابية والاخونج و»القاعدة» بفروعها. عقيدة محورها إلغاء «الأغيار» بالذبح والتهجير، وإزالة تراثهم الانساني والثقافي والعمراني. وهل يفعل الإرهابيون في سوراقيا، والسعوديون في اليمن، والاخونج في مصر، شيئا سوى ما فعله ويفعله الصهاينة بالمسيحية والمسيحيين في فلسطين، من مطاردة وتهجير واستيلاء على عقارات الكنائس، وارتكاب جرائم تدمير الأوابد الأثرية والتراثية المسيحية؛ لكن شهوة العدوان على المسيحيين، أشعلتها الوهابية الداعشية، اليوم، لدى التنظيمات الصهيونية التي تشبهها وتتعاطف معها. هكذا، تعانق الإرهابيون، التكفيريون والصهاينة، في الطريق نفسه؛ فشبّت نيران الحقد في «كنيسة الخبز والسمك» التاريخية في طبريا.
ببضع أرغفة وسمكات أطعم بسوع المسيح الجموع الجائعة، في رمز يحيل إلى بركة الأخوّة في الكدح الإنساني للخبز والوصل مع الله. وهما يمثّلان، في وحدتهما، وحدة الشعلة الإنسانية التي تؤمن بأنه أسهل على الجمل أن يدخل ثقب الإبرة من أن يدخل الأغنياء الجنة؛ فما بالك بعبيد المال؟
أهناك فايروس انتحاري ضرب بعض أوساط موارنة لبنان، فانتهى بهم إلى الانفصال الكلي عن الوجدان المسيحي المشرقي؟ لو كان ذلك انحطاط سياسيين، لقلنا هذه هي طبقة السياسيين وأخلاقها، ولكن هؤلاء زعماء، ويقودون اتباعا وجمهورا، ويعتقدون أنهم مركز المسيحية المشرقية! كلا ثم كلا؛ فالمسيحي المشرقي في سوريا والعراق وفلسطين والأردن، يدرك أنه إما أن يكون في الخندق المضاد للسعودية، وإما أن ينكر المسيح قبل صياح الديك.
المعادلة، لمن يملك الحد الأدنى من الحس بالكرامة الإنسانية، واضحة: فالوهابية ــــ المعادية بلا رحمة للمسيحية ــــ هي ضرورة وجود للبنية السياسية الاجتماعية السعودية، بينما النزعات المتعصبة دينياً وطائفياً والتنظيمات التكفيرية الإرهابية، هما السلاح السعودي الرئيسي في السياسة الإقليمية، مثلما هما ما بقي بأيدي الإمبريالية الأميركية من أدوات للنفوذ في بلادنا، وهما يقعان، قبل ذلك وبعده، في قلب التحالف مع الصهيونية، أيديولوجياً وسياسياً، ومع العثمانية الجديدة التي ما تزال يداها ترشلان بدماء ملايين المسيحيين؛ هذا المعسكر العدواني الظلامي الإرهابي ينظر إلى تهجير مسيحيي المشرق بوصفه حاجة عقائدية واستراتيجية، وبالنسبة للغرب، مجرد «نتيجة عَرَضية» للحفاظ على المصالح الإمبريالية.
لا يستطيع المسيحي المشرقي، انحيازاً بالأساس لوجوده وحياته وكرامته ومستقبله، إلا أن يكون مقاوِماً، علمانياً، قومياً، معادياً للوهابية ومملكتها وللقوى التكفيرية الإرهابية، وسادتها في إسرائيل والولايات المتحدة؛ ببساطة لأن كل هذه القوى المتحالفة تريد، أو لا يهمها، إلغاءه.
المقاومة ــــ وفي خط الزعيمين بشار الأسد وحسن نصرالله ــــ ليست، بالنسبة للمسيحي المشرقي، خياراً، وإنما هي ضرورة وجود للمسيح والمسيحية المشرقية والمسيحيين الذين لا يبيعون مجتمعاتهم وثقافتهم وإيمانهم، بثلاثين من الفضّة.