استقبل سوريون كثيرون، الأخبار والتحليلات حول مسار المصالحة، الممكن، بين دمشق والرياض وأنقرة، بانزعاج: أين تذهب تضحياتنا؟ ماذا نقول لشهدائنا؟ وآخرون، أكثر واقعية، يشترطون تعويضات ملائمة من دول الضد، وآخرون، وخصوصا من العلمانيين والتقدميين، يخشون أن تفضي المصالحة السورية ـ السعودية، إلى وقف الحملة على الوهابية والرجعية السعودية. ثم هناك الذين لا يفهمون كيف نعود، بعد كل هذه العذابات، منذ 2011، إلى رحاب النظام العربي؟
أولا، إذا عدنا إلى أهداف الحرب العالمية التي شنها التحالف الامبريالي الرجعي العربي العثماني على سوريا، فسنجد أنها تتمحور حول اسقاط الدولة السورية، وتدمير بناها التحتية والانتاجية، وتحطيم الجيش العربي السوري، والمقاومة في لبنان، وتمزيق المجتمع إلى مذاهب وطوائف واتنيات، نحو تحقيق الخطة الاستعمارية القديمة لاستكمال تمزيق الجمهورية السورية، بعد تمزيق سوريا، بانتزاع فلسطين والأردن ولبنان والاسكندرون، منها.
تضحيات السوريين الهائلة؛ قوافل الشهداء والجرحى والمهجرين، وانحدار مستوى المعيشة، والعيش في ظروف انعدام الأمن والقلق وقسوة الإرهابيين وتجار الحرب والفاسدين، لسنة خامسة على التوالي؛ تلك التضحيات هي التي منعت تحالف الأعداء من تحقيق أهدافهم؛ فالدولة الوطنية ما زالت صامدة وراسخة، بنظامها وأجهزتها ومؤسساتها وجيشها وحليفه الفدائي، حزب الله ـ اللذين، بقدرما قدّما من تضحيات، بقدر ما قويت شوكتهما وتعمقت خبراتهما وتزايدت قدراتهما وتوحدت، بما يؤذن، استراتيجيا، بوحدة سوريا ولبنان، ووحدة المواجهة مع العدو الإسرائيلي ــ وهذا وحده انجاز كبير سوف يضمن وحدة الأراضي السورية، وتجديد الدور الإقليمي لدمشق. صحيح أن تحالف الأعداء، نجح، لمرحلة، في نشر الفايروس الطائفي في سوريا، إلا أن هناك الكثير من مؤشرات التعافي، أبرزها التفاف السويداء ودرعا والحسكة، حول الجيش الوطني، وتظاهرات إدلب ضد القاعدة.
كفاح الشعب السوري المجيد ضد الفاشية الدينية، يذكّر بكفاح الشعب الروسي ضد النازية والفاشية، ويفتح السيرورة التاريخية نفسها، أي بناء تحالف الأضداد في مواجهة الإرهاب، المنفلت من كل سيطرة، وكما خرجت روسيا، قوة دولية معترفا بها بعد الحرب العالمية الثانية، ستخرج سوريا، من هذه الحرب، قوة إقليمية رئيسية، معترفا بها كمركز للمشرق كله. ومن البدهي أنه سينشأ، عن ذلك، سياق جديد للتفاعل مع قضية الجولان والأراضي اللبنانية المحتلة وقضية فلسطين؛ المقاومة على الجبهة الشمالية كلها، اكتسبت شرعيتها وحضورها، وستنشأ الظروف الملائمة لنهضة الحركة الوطنية والمقاومة في فلسطين.
كل ذلك كان، ولا يزال، يستحق التضحيات؛ على أن القيادة الحكيمة هي التي تحقق أهدافها الممكنة عند المستوى الضروري من التضحيات، ولا تبالغ في تحديد أهداف غير ممكنة، مغامرة، بغض النظر عن التضحيات.
ثانيا، البنية الاجتماعية الانتاجية في أي بلد، لا يصنعها الاستثمار الأجنبي، ولا البنى التحتية، ولا الآلات، وإنما، بالدرجة الأولى، الخبرة المتراكمة والحيوية الانتاجية للمجتمع وتوافر النخب الصناعية والزراعية والتجارية الخ. ولذلك، فإن العديد من الدول النفطية المتخلفة، لم تستطع أن تُحدث أي اختراق تنموي، برغم ما أنفقته من مليارات في هذا المجال.
سوريا، ألمانيا العرب، تملك إرثا تنمويا متجذّرا في تاريخ مجتمعها وثقافته، وقدرته على الادخار والابداع والابتكار وافتتاح الأسواق، وإدارتها. وهذا هو الأساس المتين الذي يكفل إعادة بناء الاقتصاد السوري، لكن الشيء الجديد الإيجابي الناجم عن تفاعلات سنوات الحرب، فيكمن في الامكانية السياسية الناشئة للوحدة التنموية والدفاعية بين سوريا والعراق؛ فلعل وحدة البلدين، تلك الأمنية العزيزة على قلوب القوميين منذ بداية القرن العشرين، سوف تبدأ طريقها من نقطة التنمية المشتركة. لدى البلدين، الكثير مما يمكن تبادله في المجال الاقتصادي، وتطوير سوق مشتركة، سوف يجد الأردنيون واللبنانيون والفلسطينيون، أنفسهم، مضطرين ــ ومستفيدين ــ من الاندماج فيها.
يتطلّب نجاح هذه الاتجاهات التنموية الوحدوية، نضالا دؤوبا، ومواجهة مع الفئات الكمبرادورية والليبرالية التي ستعمل على حرف إعادة البناء، وتجديد العلاقات مع السعودية والخليج، إلى سيطرة القطاعات غير الانتاجية في سوريا، أعني قطاعات العقار والمال والسياحة والتعليم الخاص الخ، على الاقتصاد الوطني على حساب الصناعة والزراعة.
في وقف الحرب، وسيادة القانون الدولي في منطقة الشرق الأوسط، مصلحة جيوسياسية لسوريا، وحلفائها، الروس والصينيين والإيرانيين، لكن، أيضا، توجد لهذا الحلف، مصالح حيوية في الاستثمارات النفطية والغازية الواعدة في سوريا. وهي ستوفر للاقتصاد السوري، فرصة تمويل تنشيط القطاع العام ودعم الصناعة والزراعة وتقديم الخدمات الكفوءة للمجتمعات المحلية.
أما فيما يتصل بالتعويضات؛ فإن مسار المصالحة العربية والاقليمية، له دينامياته التي تفرض أشكالا من التعويض عن الدمار واللصوصية؛ لكن تظل القضية تكمن في كيفية توظيف العائدات النفطية والغازية والتعويضات.
ثالثا، من الطبيعي أن مسار المصالحة مع السعودية، سوف يفضي إلى وقف الحملات الإعلامية الرسمية ضدها؛ لكن ذلك لا يعني وقف العملية الثقافية الناشئة المعادية للوهابية والرجعية الخليجية والفاشية الدينية، لدى المثقفين التقدميين. وهذه قضية نضالية بامتياز؛ فمن كان يهاجم السعودية، كأداة إعلامية، سوف يصمت عندما تحل المصالحة، ومَن كان يناضل من أجل توطيد الثقافة القومية التقدمية ضد السيطرة السعودية والخليجية، سوف يستمر في نهجه ونضاله.
رابعا، العودة إلى بناء النظام العربي، ليست خيارا، وإنما محصلة لموازين القوى؛ فلقد أظهرت التطورات، منذ 2011، أن الشعوب العربية، لا تزال عاجزة عن انجاز ثورات تقدمية بنائية، بل اتجه حراكها نحو الفوضى التي أفادت منها الامبريالية والرجعية لاشعال الحروب الأهلية ونشر الإرهاب والسعي إلى تقويض القوى القومية وقوى المقاومة، لحساب الاسلام السياسي المريض بالتخلّف الفكري والنزعة المذهبية، والمتجذّر في ارتباطاته مع الامبرياليين والرجعيين.
الفوضى السياسية القائمة في العالم العربي، وانفجار الظاهرة الإرهابية، والصراعات الطائفية والمذهبية والاتنية، وتراجع التنمية، وانحطاط الثقافة المجتمعية، كلها عوامل تتطلب، لتسكينها، مسارا تصالحيا يؤدي إلى عودة الاستقرار إلى المنطقة، واستئناف الحياة «الاعتيادية»، بالنسبة إلى عشرات الملايين من البشر المعذبين.
غير أن تجديد النظام العربي، اليوم، لن يؤول إلى تكراره؛ إذ إنه يتجدد في ظروف دولية وإقليمية وعربية جديدة، أبرزها تراجع القوة الأميركية لحساب الأقطاب الجدد في روسيا والصين ودول البريكس وحلفائها، كما لحساب قوة اقليمية كبرى هي إيران، وقوة عربية وازنة تتمثل في سوريا وحزب الله، وامتدادها الممكن في العراق واليمن الذي لن يعود، أبدا، مستعمرة سعودية.
يقوم النظام العربي على ثلاث ركائز: سوريا ومصر والسعودية؛ إلا أن المضمون السياسي لهذا النظام، كان يتحدد بموازين القوى بين تلك الركائز؛ ففي عهد عبد الناصر، كانت القاهرة هي التي تحدد طبيعة النظام العربي، ثم تحول مركز الثقل إلى السعودية، ونحن نعيش، الآن، عشية المرحلة السورية.