مرت 9 سنوات على حرب 2006، و«الحرب المقبلة» لا تنشب. من لا يتذكر مرحلة ما بعد العدوان، وما كتب عن استئناف وشيك للحرب، وأن إسرائيل ستعيد الكرّة مع التأكد من هزم حزب الله ورد اعتبارها. قيل في الحرب المقبلة ما لم يُقل في حرب أخرى. كم هائل من التقديرات: من حرب في الصيف إلى حرب في الخريف الى الشتاء فالربيع. أكثر من تسع سنوات من الوعود والإنتظار، لكن الحرب لم تنشب. ليس لأن مصلحة إسرائيل في اجتثاث تهديد الحزب غير موجودة، أو لأنها لا تريد رد إعتبارها المسحوق، وإلا كانت قد باشرت الحرب بلا تأخير. توجد مروحة واسعة من الإعتبارات، التي لا تسمح للعدو بتجاوزها، وقد أثبتت السنوات الماضية أنها أقوى بكثير من كل حافزية تل أبيب.
تشخيص المصلحة الإسرائيلية، لا يكفي في ظل ميزان القوة بين الجانبين، للقول إن الحرب ستقع أو لا تقع. صحيح أن الهوة كبيرة بين الإمكانات العسكرية لحزب الله وإسرائيل، إلا أن لدى الحزب ما من شأنه أن يدفّعها ثمناً باهظاً.
في إسرائيل يقرون بهذه الحقيقة. لا ينكرون أن من مصلحتهم منع الحرب، أو تأجيلها. رغم كل أخطاء إسرائيل وما دفعها إلى شن «اعتداءات مدروسة»، مبنية على تقدير خاطئ حول وضع الحزب و«انضغاطه»، بحسب تعبير الإسرائيليين.
صحيح أن الإنشغال الإسرائيلي طوال السنوات الماضية يتركز على البحث في مصلحة حزب الله وإمكاناته، ونياته لخوض الحرب، إلا انه من النادر جداً أن يبحث الإسرائيليون علنا في نياتهم ومصالحهم لخوض الحرب. وفي مرحلة ما بعد الحرب في سوريا، تركّز البحث الإسرائيلي على التدخل العسكري لحزب الله في الساحة السورية وانشغاله فيها، وقبلها بمناكفة جهات لبنانية ومدى قدرتها على إشغال الحزب عن اسرائيل.
مع ذلك فان البحث عن انشغال الحزب، لا يرمي الى البحث عن فرصة شن الحرب المقبلة، بل عن القدرة في تغيير قواعد الاشتباك غير المكتوبة بين الجانبين منذ عام 2006: اسرائيل تمتنع عن استهداف لبنان وحزب الله، مقابل امتناع حزب الله عن استهدافها.
عملت اسرائيل وحاولت، تبعا لظروف حزب الله وانشغاله، على فحص حافزيته في الرد على اعتداءاتها. لكنها أخطأت في «تثقيل» هذا الإنشغال مرّات عدة، وكان الرد على اعتداءاتها كافياً لإعادة تصويب قراءاتها. جوهر خطأ اسرائيل أنها ركّزت على ظرف الحزب، وأهملت أصل الإعتداء وتداعياته، وتحديداً في الساحة اللبنانية. فسواء كان الحزب مشغولا أم لا، ليس بإمكانه «بلع» اعتداء إسرائيلي في لبنان، مهما كانت النتائج. إذ انه يدرك جيداً أن مرور اعتداء كهذا بلا رد، سيحفز إسرائيل كي تترقى درجات في اعتداءاتها، وهو ما لا يُمكن السماح به.

النظرية الجديدة
في إسرائيل قائمة على خوض الحرب لتأجيل الحرب الآتية

مع ذلك، لا يمكن إنكار أن إسرائيل تعدّ للحرب، وأن وحداتها العسكرية لا تتوقف عن التدريبات والمناورات استعداداً لها. إلا أنه ما بين الإستعداد للحرب والحرب نفسها، فرق كبير. قد يكون الإستعداد والإعلان عنه، إحدى أهم المقدرات لمنعها، تماما كما التهديد بإعادة لبنان الى «العصر الحجري» بحسب إسرائيل. أما من جهة حزب الله، فإنه يدرك جيداً أن السلاح الذي يهدّد إسرائيل ويدفعها الى الحرب، هو نفسه الذي يمنع ترجمة حافزية إسرائيل الى أفعال عدائية واسعة.
حتى الآن لم تنشب الحرب، إلا أن حالة اللاقتال خُرقت في السنوات الماضية، بل وكادت تتسبب بحرب، تؤكد اسرائيل، أن أيا من طرفيها لا يريدها. نعم خرقت إسرائيل قواعد الإشتباك، وتحديداً في الساحة السورية، وبقدر أقل ومحدود، في لبنان. وهذا الخرق لم يكن توطئة لشن الحرب الموعودة، بل فرصة وجدت إسرائيل أنها باتت سانحة لتغيير قواعد الاشتباك، والإستفادة من ظرف «انضغاط» الحزب، لضرب قافلة هنا أو هناك، قيل إنها تنقل سلاحاً «كاسراً للتوازن» الى الحزب في لبنان.
لكن ما هي القاعدة، التي حكمت وما زالت، أفعال إسرائيل في سوريا ولبنان؟ يمكن اختصار ذلك على النحو الآتي: تندفع إسرائيل الى كل عمل عدواني لا ترى أنه يؤدي الى حرب أو ما يقود اليها. كما تمتنع عن شنّ إعتداء ترى أنه يتسبب بردّ من الحزب، من شأنه أن يدحرج الردود الى حرب. لكن ما هو الإعتداء الذي يقود الى رد، ومن ثم تدحرجاً الى مواجهة واسعة؟ هذه هي المسألة التي تسميها الإستخبارات الإسرائيلية الخطأ في تقدير موقف الطرف الآخر.
مع ذلك يبقى السؤال قائما: هل تُقبل «الحرب المقبلة»؟ الإجابة معقدة. وقد يكون للوضع في سوريا ومآلاته، دور أساسي في تحديد إقبال الحرب من إمتناعها. إلا إنه من شبه المؤكد أن كثيراً من السيناريوهات المفترضة، تزيد من حافزية إسرائيل، رغم أن زيادة الحافزية نفسها، لا تكفي للقول بأن الحرب واقعة لا محالة، ذلك أن السؤال الإبتدائي: متى تنشب الحرب؟ سيكون أيضا مرتبطاً بسؤال آخر: هل بمقدور الحرب إجتثاث تهديد الحزب؟
من هنا تجدر العودة إلى عِبر 2006، اذ أثبت العدوان لإسرائيل أن العمل العسكري وحده لا ينهي التهديد، بل يحد منه مؤقتاً، بانتظار إعادة ترميمه وزيادته على نحو أكبر كما حدث بعد العدوان. ومن هنا جاءت النظرية العسكرية الإسرائيلية الجديدة: «المعركة بين الحروب» والتغيير في معنى النصر في الحرب من هزم العدو وفرض الإرادة السياسية عليه، الى العمل على منع الحرب وتأجيلها، وإلا فخوضها بهدف واحد: تحقيق إنجاز ميداني من شأنه أن يؤجل الحرب الأخرى. ومعنى هذه النظرية أن خوض الحرب يرمي الى تأجيل الحرب التي تليها فترة أطول، لتعذر هزم العدو أساساً. أما مفهوم الإنكسار والهزيمة، فبات من الماضي.
الحرب بمفهومها التقليدي قد تنشب وقد لا تنشب. إلا أن الحرب قائمة بالفعل وإن بأساليب اخرى، وهي أساليب قد تؤدي بذاتها الى الحرب. توجد جملة من التطورات، وخاصة في سوريا، قد تدفع الطرفين الى حدود المواجهة، ولا سيما إن كان لدى اسرائيل تقدير استخباري خاطئ بشأن موقف الحزب. واذا كانت «الحرب المقبلة» مؤجلة، كما يبدو، إلا أن الوقوع فيها غير ممتنع بالمطلق.