مرّت الذكرى التاسعة والثلاثون لمجزرة تل الزعتر، وتذكّرها الناجون مثل كل سنة بصمت وبعيداً عن الإعلام. تل الزعتر رمز لأشياء كثيرة، ومنها الصمود والمقاومة والبسالة والتضحية والتكافل والعناد بوجه مؤامرة عربيّة ــ إسرائيليّة ــ غربيّة. لكن لبنان يريد أن يتبرّأ منها، وان يجعل من قاتلي النساء والأطفال في المخيّم أبطالاً محترمين.
كان سهلاً على اللبنانيّين بالمجموع تبنّي السرديّة الكتائبيّة ــ القواتيّة للحرب الأهليّة. كان أسهل عليهم اعتناق رواية براءة اللبنانيّين الشديدة. وقد ساهم في شيوع السرديّة الكتائبيّة ــ القواتيّة عن الحرب انهيار معظم قيادات الحركة الوطنيّة اللبنانيّة والتحاقها بركب التيّار الحريري الخليجي، وقيام الثنائي جورج حاوي ومحسن إبراهيم بدورة كاملة من الانقلاب على مشروع كانا في صلب قيادته. وقيام محسن إبراهيم بتقديم نقد ذاتي مجّاني بالنيّابة عن جماهير الحركة الوطنيّة (التي لم تكلّفه بالهمّة) ساهم (بطريقة مباشرة أو مداروة) بتدعيم السرديّة الكتائبيّة ــ القواتيّة. وقيادات المقاومة الفلسطينيّة لم تساهم في دحض الرواية اللبنانيّة السائدة التي لخّصها غسّان تويني في عنوان كتابه عن الحرب وذلك خشية الظهور بمظهر المُتدخّل في شؤون «البلد الشقيق». بكلام آخر، ليس هناك من سرديّة عن الحرب خلا سرديّة الميليشيات الفاشيّة المُتحالفة مع العدوّ الإسرائيليّة. يختلف العونيّون والقواتيّون على كل القضايا لكن يجمعون — ومعهم 14 آذار وبعض 8 آذار — على سرديّة الحرب نفسها. إنه بعبع «الغريب» الذي فعلها — والوصف استعمله بيار الجميّل لتسويغ جرائم حربه.
وفي الوقت الذي يُنعِم فيه محسن إبراهيم (باسمه أم باسم شهداء الحركة الوطنيّة اللبنانيّة الذين استشهدوا في قتال القوى الانعزاليّة الفاشيّة) بالاعتذار عن حمل الحركة الوطنيّة لواء المقاومة الفلسطينيّة (وهذا الحمل كان أنبل وأشرف ما في تاريخ ودور هذه الحركة التي شابها الكثير من الفساد والتبعيّة والانهزاميّة والانتهازيّة والتخاذل والنفاق) يطلق موقع «القوّات اللبنانيّة» في الذكرى التاسعة والثلاثين لسقوط مخيّم تل الزعتر مقالة زهو بالمجازر التي ارتكبتها القوى الانعزاليّة في المخيّم.

القيادة العرفاتيّة
كانت في حالة تفاوض مع حزب الكتائب لتسليم المخيّم سلميّاً
والزهو بالمجازر ليس صفة الموقع فقط: يحتوي «يوتيوب» على مقابلة مع ميشال عون يزهو فيها إنه هو وضع خطّة اقتحام المخيّم الآهل بالسكّان. موقع «القوّات» في مقالة بعنوان «معركة تل الزعتر» (دائماً تكون المجازر معارك عند الإسرائيليين وأولادهم الشرعيّين في المنطقة العربيّة) وصَفَ الشعب الفلسطيني في المخيّم بـ «الأوباش»، وقال إن مرتزقة وضبّاطاً من الدول العربيّة والأجنبيّة كانوا يقودون المعارك فيما كان شبل من الأشبال الفلسطينيّين الشجعان هو الذي رمى ويليام حاوي، قائد زمرة القُتَلة، برصاصة قتلته بعد سقوط المخيّم. وموقع «القوّات» كي يستخرج نصراً من رحم المجازر زعم أيضاً ان عسكريّين من الاتحاد السوفياتي هم الذين بنوا وحصّنوا المخيّم فيما كان تحصينه وتدعيمه على يد طلبة مدارس ثانويّة في لبنان. بين عامي 1973 و1975، كان متطوّعون من طلبة المدارس الرسميّة والخاصّة يذهبون في سيّارات وباصات إلى مخيّم تل الزعتر لأن المخطّط ضد المخيّمات الفلسطينيّة في المنطقة الشرقيّة من بيروت كان واضحاً خصوصاً بعد المحاولة الفاشلة للقضاء على شوكة الثورة الفلسطينيّة في ربيع 1973 عندما طلعت طائرات السلاح الجوّي اللبناني (النائمة أبداً بوجه العدوّ الإسرائيلي) من مراقدها لتقصف مخيّمات بيروت.
وموضع «تل الزعتر» بات لا يُذكر في لبنان إلا للسجال في الموضوع السوري، فخصوم النظام السوري الجُدد تذكّروا فجأة ان النظام السوري كان شريكاً في الحرب على المُخيّم، فيما يردّ أدعياء النظام السوري بالاستشهاد بمقابلة مع المناضل ناجي علّوش على «يوتيوب» نفى فيها ان تكون قوّات سوريّة قد شاركت في اقتحام المخيّم. لكن مسألة مشاركة النظام السوري لم تكن بشكل المُشاركة في الاقتحام، بل اتخذ أشكالاً أخرى لم نعرفها بالتحديد بعد. لكن من المؤكّد أن القوّات الانعزاليّة كانت يومذاك في أوج تحالفها مع النظام السوري وكانت تسعى جادّة لاجتذاب القوّات السوريّة ومخابراتها إلى لبنان. (وردت فكرة مشاركة قوّات سوريّة في اقتحام المخيّم في تصريح لكمال جنبلاط في 29 حزيران وجاء فيه: «إن كتيبة سوريّة عبرت إلى المنطقة الشرقيّة بملابس مدنيّة واشتركت في الهجوم». لكن جنبلاط نفسه ناشد الملك خالد بن عبد العزيز التدخّل لإنقاذ المخيّم فيما كان النظام السعودي يمدّ قوّات الكتائب و«الأحرار» بالسلاح والذخيرة).
كان كل قادة «الجبهة اللبنانيّة» (القيادة العليا لميليشيات اليمين قبل ان يستحوذ عليها كلّها بشير الجميّل بعد مجزرة الصفرا - كل تاريخ تلك الميليشيات مكتوب بالمجازر) يستنجدون جهاراً ويوميّاً بالنظام السوري. ولم تكن حروبهم فقط ضد الغريب بل هي كانت أيضاً ضد المسلمين واليساريّين ومَن تبقّى في مخيّلتهم من «غرباء» (أي الملوّنين والسود). كان ذلك يوم قال شمعون عن التدخّل العسكري السوري في لبنان: «لم نختلف يوماً مع السوريّين ونحن قبلنا الوساطة السوريّة والمبادرة السوريّة وما جرى بالنسبة للتدخّل العسكري ما هو إلّا ضمن إطار روح المبادرة التي قبلناها» (راجع وراجعي الصحف اللبنانيّة يوم 12 حزيران 1976). وعندما اقترحت الجامعة العربيّة آنذاك قوّات سلام عربيّة رفضت «الجبهة اللبنانيّة» أن تحلّ هذه القوّات محل القوّات السوريّة، وقال شمعون بالنيابة عن الجبهة: «عدم سحب القوّات السوريّة من لبنان على ان تتعاون القوّات العربيّة مع هذه القوّات، كذلك ضمان مواقفة سوريا على دخول القوّات العربيّة» (راجع وارجعي الصحف اللبنانيّة يوم 20 حزيران 1976).
ما نعلمه بالتأكيد عن الدور السوري إضافة إلى حالة الحلف الوثيق آنذاك أن مبعوث الجامعة العربيّة في شأن تل الزعتر، حسن صبري الخولي، فوجئ عندما زار غرفة العمليّات المشتركة لحزب الكتائب في سن الفيل بأن وجد مسؤولاً استخباريّاً - عسكريّاً سورياً (علي مدني)، الذي ما لبث ان غادر عائداً إلى دمشق مصطحباً معه ميشال سماحة وكريم بقرادوني من حزب الكتائب. وقال الخولي إنه «التقى العقيد على المدني برفقة ضبّاط سوريّين في غرفة العمليّات التابعة لحزب الكتائب في سن الفيل» («السفير»، 13 آب، 1976). كما أن شقيق قيادي في حركة «امل» أخبرني أن شقيقه الذي وقع في براثن حزب الكتائب بعد سقوط النبعة شاهد في مركز الكتائب في سن الفيل الضابط السوري، إبراهيم حويجي (المُتهم بتنفيذ اغتيال كمال جنبلاط). ولم تسمع وسائل الإعلام الرسميّة السوريّة بسقوط تل الزعتر بعد سقوطه. كما أنه لم يكن بمستطاع القوّات الانعزاليّة إحكام الطوق حول تل الزعتر من دون تزامن «التوغّل» الذي قام به الجيش السوري في أنحاء مختلفة من لبنان (شرقاً وشمالاً) ما حمى ظهير المناطق الخاضعة لنفوذ القوى الفاشيّة. وقد أوردت الكاتبة اليساريّة، تابثا بتران في كتابها عن الحرب الأهليّة (وهو من أفضل الكتب عن الحرب حتى منتصف الثمانينيات)، «الصراع حول لبنان»، أن مدفعيّة النظام السوري شاركت في دكّ المخيّم لكنها لم توردْ مرجعاً غير «الإعلام اللبناني» في حينه (ص. ٤٠٣).
كما ان القيادة العرفاتيّة تستحقّ المسؤوليّة عن سقوط المخيّم، وهي («حركة فتح» تحديداً) كانت في حالة تفاوض مع حزب الكتائب لتسليم المخيّم سلميّاً عندما اقتحمت القوى الفاشيّة المخيّم. عرفات كان مسؤولاً عن الوثوق بضمانات مخالفي العهود والاتفاقيّات على مرّ السنتيْن الأولى من الحرب الأهليّة. وقد قدّم المسؤول العسكري في منطقة بيروت في حركة «فتح»، المناضل أبو داوود، خطّة تفصيليّة لفك الحصار عن المخيّم لكن عرفات (الذي لم يكن يقبل بالمسّ بخطوط التماس بين المتقاتلين في سنوات الحرب) رفض العرض، ورفض غيره أيضاً. وكان عرفات بالرغم من ذلك يرسل البرقيّات إلى المقاومة في المخيّم آمراً بالصمود والمقاومة وواعداً بالعمل سريعاً على فك الحصار والوصول إلى أهله.
لكن مخيّم تل الزعتر لا يرد في الذكرى المُتكرّرة. خصوم النظام السوري لا يذكرونه إلا من باب إحراج النظام السوري وإدانته (وهو يستحقّ الإحراج والإدانة على ألف فعلة شنيعة وفعلة) لكنهم (في ١٤ آذار) ينسون أنهم متحالفون مع الأحزاب التي ارتكبت المجزرة.

«تل الزعتر» بات
لا يُذكر في لبنان إلا
للسجال في
الموضوع السوري
المسؤوليّة الأولى والكبرى في مجزرة تل الزعتر تقع على الكتائب و«الأحرار» و«حركة الشبيبة اللبنانيّة» و«التنظيم» و«حرّاس الأرز» وعلى من كان يرعاهم في تل أبيب، بالإضافة الى قيادة الجيش اللبناني التي كانت في سنوات الحرب، ووفق عقيدة فؤاد شهاب العسكريّة، مُتواطئة مع العدوّ الإسرائيلي. والأنظمة العربيّة (السوريّة والأردنيّة والسعوديّة) كانت هي أيضاً ترعى وتموّل وتساعد التنظيمات التي ارتكبت المجزرة الفظيعة هناك. والقوى الفاشيّة هذه كانت تكرّر يوماً بعد يوماً ان ليس هناك من مدنيّين في المخيّم وأن كل من يقطن فيه هم من المقاتلين («المرتزقة» بحسب وصف إعلام الكتائب) فيما أجلى الصليب الأحمر نحو 12,000 مدنيّ ومدنيّة بعد سقوط المخيّم. ولم يكن بين هؤلاء الآلاف ذكور بين سن الثامنة والخمسين.
ونشب نزاع بين المقاتلين بعد سقوط المخيّم حول حصّة كل فصيل لبناني يميني في قتل الفلسطينيّين الناجين (راجع مجلّة «نيوزيوك» عدد 26 آب، 1976)، الكل كان يريد ان ينهش في الدم الفلسطيني. وتقصّد القَتَلة ان يدعو أهل المخيّم إلى الخروج الآمن حتى يعاجلوهم بإطلاق الرصاص العشوائي. عائلات كاملة ابيدت، بحسب وصف بتران، التي تضيف أن صبية في عمر الثامنة والعاشرة أُعدموا، وان بنات في الأعمار نفسها تعرّضوا للاغتصاب (ص. ٢٠٩).
وتنافس قادة الجبهة اللبنانيّة على شيطنة الشعب الفلسطيني وتصوير المخيّمات الآهلة بالسكّان على أنها معسكرات وقلاع عسكريّة فقال بيار الجميّل: «هي قواعد عسكريّة ومستودعات ذخيرة وأحياناً ملاجئ للفوضيّين والنهيليّين وكل الذين تنكّروا لأوطانهم ومجتمعاتهم وللقيم الإنسانيّة» (طبعاً كانت بيانات بيار الجميّل - الأمّي باللغة العربيّة - تُكتب له). اما كميل شمعون فقال: «إن تل الزعتر (وجسر الباشا) ليسا بمخيّميْن بل تحوّلا لمعسكرات، لدويلات العنف محصنين بالإسمنت فوق الأرض وتحتها وبالدهاليز المحشوّة بالأسلحة الثقيلة... لقد بات هذان المكانان ملجأين للأشرار وشذّاذ الآفاق الغرباء المتمرّسين بكل الأعمال الإجراميّة وليس فيهما ما يتفق مع فكرة مخيّم للاجئين لأنه لم يعد فيهما لا عائلات ولا نساء ولا أولاد» (راجع وراجعي الصحف اللبنانيّة في 28 حزيران 1976). (والطريف ان القيادات نفسها عادت وزهت أنها ساهمت في إجلاء النساء والأولاد والعائلات من المخيّم بعد سقوطه للتدليل على إنسانيّتها). والخطاب الذي استُخدم كمقدّمة لتدمير مخيّم تل الزعتر وجسر الباشا وضبيّة هو نفسه الذي استعمل فريق 14 آذار كمقدّمة لتدمير مخيّم نهر البارد، وثارت ثائرة كل هؤلاء عندما حاول حسن نصرالله ان يمنع اقتحام المخيّم وتدميره عن بكرة ابيه وأمّه.
لم تكن الحرب على تل الزعتر ومن كل الجهات (وهو مخيّم مُحاصر) مجزرة واحدة بل سلسلة من المجازر تراكمت وتعدّدت في طول أيّام الحصار الطويل. في عمليّة قصف وحشي شارك فيه الجيش اللبناني بقوّة في 27 تمّوز تم هدم مبنى في رأس الدكوانة كان يختبئ في ملجأه العشرات من المدنيّين والمدنيّات: وسحبت فرق الإنقاذ من ملجأ المبنى المُنهار 150 جثّة، وتم سحب 15 ناجياً معظمهم من الأطفال، وهم في حال «بالغة السوء». ولم يكن بينهم مقاتل واحد بحسب مسؤول في فرق الإنقاذ، وبحسب شهادات الطبيب الناجي، يوسف العراقي.
لم تكن المؤامرة على تل الزعتر منفصلة عن المؤامرة الأكبر التي رعت الحرب الأهليّة في لبنان. لم يكن كلام وخطاب الحركة الوطنيّة اللبنانيّة والمقاومة الفلسطينيّة عن مؤامرة كبرى من المُبالغات. قد يكون السفير الأميركي الحالي، ديفيد هيل، أقلّ ذكاء من أسلافه من المنصب، ولعلّ ذلك سبب صراحته بعد لقاء أخير له من سامي الجميّل (بحضور مستشار للجميّل وهو من خرّيجي الذراع البحثي للوبي الصهيوني في واشنطن) عندما أثنى على دور حزب الكتائب في تاريخ لبنان ووصفه بالمُميّز وقال: «حزب الكتائب ركن لاستقرار لبنان ولقيم عديدة يتشاطرها اللبنانيّون من حريّة واستقلال وسيادة، وهذه القيم تساندها الولايات المتحدة ولهذا لدينا شراكة مع حزب الكتائب اللبنانيّة منذ سنوات عديدة». إن هذا التصريح ليس إلا اعترافاً مُخفّفاً عن مشاركة الحكومة الأميركيّة إلى جانب الحكومة الإسرائيليّة في الحرب الأهليّة إلى جانب ميلشيات اليمين الفاشي (كان بعض السفراء الأميركيّين في لبنان، مثل ريتشارد باركر، يكنّون عداء كبيراً لحزب الكتائب لكن الإدارة في واشنطن الخاضعة لمشيئة اللوبي الإسرائيلي وبناء على حسابات الحرب الباردة، كانت تدفع نحو دعم كبير لبشير الجميّل). وبعد أيّام من زيارة السفير الأميركي لسامي الجميّل، زاره السفير السعودي الذي قال عن الجميّل إنه «سليل بيت سياسي ووطني له في النضال والقيادة والذود عن لبنان تاريخ عريق». هؤلاء كانوا من مكوّنات المؤامرة ضد الشعب الفلسطيني في لبنان.
لم تتوقّف المؤامرة الإسرائيليّة التي نفّذها الملك الحسين ووصفي التل في 1970 في أيلول في الأردن من أجل القضاء على المقاومة الفلسطينيّة، بل هي انتقلت إلى الحلقة الأضعف في لبنان. لكن لبنان آنذاك، خلافاً للأردن، كان يحتضن تيّاراً يساريّاً وقوميّاً عربيّاً عامراً مؤيّداً للثورة الفلسطينيّة («كانَ» فعل ماضٍ). وعندما حاول النظام اللبناني، في اعقاب الإنزال الإسرائيلي في فردان في نيسان 1973 بتواطؤ مباشر مع العدوّ من قبل قيادة الجيش اللبناني، أن يقضي على المقاومة الفلسطينيّة فشل فشلاً ذريعاً، وقاتل لبنانيّون لنصرة المخيّمات الفلسطينيّة. وينسى، لا بل يتناسى، الكثير من اللبنانيّين اليوم ان المنظمّات الفلسطينيّة كانت تضم في صفوفها الآلاف من اللبنانيّين واللبنانيّات ومن مختلف الطوائف اللبنانيّة (يُراجع في هذا الكتاب الصادر حديثاً عن تجربة المناضل المعروف، معين الطاهر).
لم تكن مؤامرة فقط ضد مخيّم فلسطيني واحد. هي مؤامرة استهدفت أكثر من مخيّم وأبادت في سنوات الحرب مخيّم تل الزعتر وجسر الباشا وضبيّة (في حلقة على الشاشة البرتقاليّة من إعداد زياد نجيم تم طمس مجزرة مخيّم ضبيّة وزعم الضيوف الانعزاليّون أن المخيّم سقط سلميّاً وأنه لم يسقط فيه ضحايا بينما مات في قصف ضبيّة العشرات قبل سقوطه). كما ان العدو الإسرائيلي كان قد أباد مخيّم النبطيّة عام 1974 وهجّر أهله شمالاً، لكن المخيّم لا يرد في تعداد منظمّة «الأنروا».
إن المخطّطات الصهيونيّة المصدر والتي توافقت مع مخطّطات أنظمة عربيّة مختلفة (خليجيّة وبعثيّة) في تحجيم وحتى تدمير مخيّمات فلسطينيّة في لبنان كانت مستمرّة بعد فشل مشروع طرد الشعب الفلسطيني من لبنان وتوزيعه على دول عربيّة (تحقّق جزء من هذا المشروع في عام 1982 بعد ترحيل شوكة المقاومة الفلسطينيّة عن لبنان). كان سامي الصلح يبحث مع دبلوماسيّين أميركيّين في توزيع الفلسطينيّين منذ الخمسينيات. والعدوّ الإسرائيلي أراد ان يرحّل الشعب الثابت في أرضه إلى أصقاع بعيدة من فلسطين.
لا، لم يعتذر لا سمير جعجع ولا حزب الكتائب اللبنانيّة عن فظائع الحروب والمجازر ضد المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان. وحتى لو اعتذروا: هناك ما يُعتذر عنه، وما يُصفح عنه وما لا يُصفح عنه قطّ. يُصفح عن الذي سرق أزهاراً من حديقة منزل ليهديها لحبيبته، يُصفح عن الذي داس على قدمي خطأً ولو أوجعني. يُصفح عن الذي هوّن من الخطر الانعزالي قبل ان يصل إلى منزله لكن هناك ما لا يحتمل الصفح والغفران. حزبا الكتائب والقوّات كانا مسؤولين عن حملات منظمّة (ومنسّقة مع العدوّ الإسرائيلي) للتهجير العرقي والطائفي: يذكر الخطاب الكتائبي والقوّاتي تل الباشا وتل الزعتر بزهو، لكنه لا يذكر الأحياء الإسلاميّة التي هجّروا اهلها في المنطقة الشرقيّة من بيروت، من حارة الغوارنة إلى سبني إلى النبعة الى الكرنتينا (ولم يكن الهجوم على الدامور والعيشيّة على فظاعته إلا ردّ فعل على مجزرة الكرنتينا وعلى استفزازات الكتائبيّين في الدامور في الطريق الساحلي) إلى حي بيضون في الأشرفيّة (حيث سكن عبد الله العلايلي، والذي لم يكتفِ الكتائبيّون بسرقة بيته بل عبثوا بمحتويات صناديق مخطوطة لمعجمه الذي قضى سنوات في جمعه وووضعه). السرديّة لميليشيات الانعزاليّين انهم حاربوا «الفلسطيني الغريب» لا إنهم حاربوا لبنانيّين من طوائف أخرى، او حتى من الموارنة، من مجزرة الصفرا إلى مجزرة إهدن.
مرّت مجزرة تل الزعتر (أودت بحياة ثلاثة آلاف شهيد بين مقاتلين أبطال ومدنيّين ومدنيّات) هكذا عرضاً، كما تمرّ ذكراها كل عام. عدد الذين يتذكّرون ضحايا صبرا وشاتيلا يصغر كلّ عام، والمُشرف العام على مجزرة صبرا وشاتيلا تحوّل على يد المخابرات السوريّة ورفيق الحريري - وبصمت الموافقة من حزب الله - إلى رمز مُقاوم وعدوّ لدولة العدوّ التي درّبته وجهّزته. لكن تل الزعتر تحتل موقعاً خاصاً في الذاكرة الفلسطينيّة والشباب الفلسطيني حول العالم لا ينساها كما لا ينسى ذكرى مجازر اخرى تعرّض لها الشعب الفلسطيني في منفاه العربي. تل الزعتر سجلّ لخالدين في الزمن وفي المكان. والعدوّ الكتائبي الذي حرص على تدمير كل المخيّم وسحقه بالبلدوزر كان ينفّذ أوامر معلّميه في تل ابيب. وكما فشل العدو الإسرائيلي بالنار والدمار والاحتلال و«الجدار الحديدي» في القضاء على القضيّة الفلسطينيّة، فإن ميلشيات اليمين المهزومة فشلت في القضاء على القضيّة الفلسطينيّة، ولن ينفع مع أمين الجميّل ان يتلقّى مع سلطة الاحتلال الإسرائيلي في رام الله صكوك براءة.
كم كان أبو أياد محقّاً: إن طريق فلسطين فعلاً تمرّ في جونية وفي بكفيّا وفي صور وفي بيروت (الشرقيّة والغربيّة) وفي كل قرية ومدينة في لبنان. وفي تحرير فلسطين تحريرٌ للبنان من استعمار ثابت، ومُتعدّد الألوان والأشكال والهويّات. ولأن الحروب على المخيّمات جرت على أيدٍ عديدة ومتعدّدة (من أنظمة عربيّة ومن أحزاب يمينيّة رجعيّة ومن حركة «أمل» التي لا تُعدّ في الصف اليميني الرجعي في حسابات الرياضيّات الطائفيّة)، فإن المخيّمات الفلسطينيّة، المُدمّرة والماثلة اليوم هي عنوان لسجلّ من العار اللبناني (الرسمي والشعبي). وهؤلاء المثقّفون العرب الليبراليّون الذين يصرّون على أن إنسانيّة العربي لا تكتمل قبل الوقوف على أطلال مخيّمات الاعتقال النازي في أوروبا، أولى بهم ان يدعونا إلى زيارة أطلال المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)