كلن يعني كلن؟

يحكى أن ساحرة مرّت في قرية، وألقت في بئرها تعويذة تجعل كلّ من يشرب من مائها مجنوناً. شربت القرية كلّها إلا الملك والوزير. هكذا لاحظ الأهالي (المجانين) أن ملكهم ووزيرهم اللذين لم يشربا من البئر، «أصيبا بالجنون». فكان نقاش فلسفي بين الوزير والملك: أنشرب من البئر ليرضى شعبنا عنا ويكفّ عن وصفنا بالمجانين؟ أم نحتفظ بعقولنا لنستطيع أن ندير البلاد ونُشفي الشعب من جنونه؟ لا إجابة في القصة، أو لنقل إني لا أذكر إن كانت هناك إجابة. إلا أن السؤال المحيّر فعلاً: ما الذي كان على الملك والوزير أن يفعلاه؟

في مراهقتي كنت أقول إنه لم يكن على الملك والوزير أن يشربا من البئر، كان طبيعياً أن تختارَ العقل ولو كنتَ الوحيد العاقل، بدلاً من أن تختارً الجنون مع الغالبية المطلقة.
ثم طال بنا النظام الفاسد وأصبح أكثر خطورة، يوماً بعد يوم، فتغيّرت الإجابة: ربما... لا أعرف... ثم وُلِدَ سؤالٌ آخر: ولكن، إن كان أهل القرية كلهم مجانين/ فاسدون، هذا يعني أنهم «أصيبوا» بالفساد ولم يكونوا مُخيّرين! يعني إن كان الفساد قد تشعّب، وتجذّر عبر عقود لدرجة أنه أصبح نظاماً بديلاً من النظام، وطاول كلّ واحد منا، فهل يصحّ في وصف الشعب الذي ارتضى هذا النظام/ أو عجز عن تغييره فانضوى تحته، بالفاسد؟ أم أن هناك سلم نسبة في المسؤولية؟ وإن كان ذلك صحيحاً فكيف يُوزّع؟ وما حكم الساحرة التي ألقت التعويذة السامة على البئر العام؟ أيكون حكمها حكم من شرب ببراءة من البئر لأنه لم يجد ماء آخر ليشربه؟ وما حكم الملك والوزير إن شربا ففسدا أو لم يفعلا فبقيا معزولين عن الشعب وكيفية تفكيره؟

****
لا أحب النكات البذيئة، عكس العديد من اللبنانيين المقبلين على برامج الكوميديا من هذا النوع على الشاشات. لأن رائحة الكبت والعنصرية واحتقار الجنس والحب والمرأة والغريب والضعيف تفوح منها. من تلك النكات العنصرية نكتة «كلنا يعني كلنا» التي قيلت أيام الحرب الأهلية، وهي تروى عن أبو العبد البيروتي (المسلم) الذي دخل ديراً لراهبات خلال الحرب بين المسلمين والمسيحيين، ونادى على الراهبات أن يصطففن لأنو «بدنا نغتصبكن كلكم» فإذا براهبة شابة تتوسّل إليه أن: أرجوك وفّروا «المامير» (أي الراهبة الأم) فإذ بالراهبة المسنّة تعترض بقولها: «لا يا ابنتي.. كلنا يعني كلنا».

****
التعميم يعني التجهيل. هذه قاعدة. أما الشعب اللبناني فهو مصاب بأنواع من الجهل المواطني بامتياز. جهلٌ جعل من كلمة «سياسة» فارغة من المعنى الأصلي أي «سَاسَ أمور الناس بما فيه صالحهم» وذلك لطول العشرة مع مصادري السياسة من مافيات السلطة. حسناً، هل هو مذنب في ذلك؟ إلى حد ما. ولكن، هل هو مذنب كما هم أمراء الحرب مذنبون؟ كالساحرة؟ أولئك المذنبون ذنوبهم مضاعفة كونهم نهبونا في الحرب وثم أسسوا نظاماً لسرقتنا في سلم مغشوش بعد أن أصدروا عفواً عاماً عن أنفسهم؟ أنتم أجيبوا.
حين تختار حملة شعاراً مثل «كلن يعني كلن» فهي، عن جهل، بفرض حسن النية و... الجهل، أو عن معرفة (لا تبدو متوفرة) تفرض شيئين: التعميم المفضي إلى تجهيل الفاعل، وثانياً: تفريق الناس، التي شربت من بئر الفساد اضطراراً او يأساً، عن التظاهرة. شيء يشبه حال بلد خرج من حرب أهلية وقد ارتكبت الغالبية العظمى فيه أفعالاً جرمية، فماذا نفعل؟ نضع الجميع في الحبس؟ العفو العام بعد فعل المصالحة والاعتراف بالجرائم هو الحل. فما الحل في بلد يحاول الخروج من بئر الفساد؟
فالمجتمع اللبناني بهذا المعنى فاسد بغالبيته، وليس فيه «ابن مرا» لم يجبر أو استسهل بعض الخيارات الفاسدة لعجز عن التغيير وقلة ثقة بالنفس وبالغير من اللبنانيين. هكذا يصبح الشعار شاملاً بطريقه للناس أيضاً. فمن هم الذين سينزلون إذاً للتغيير؟ الملك والوزير؟ لكن إن كانا منفصلين عن العالم لأنهما لم يشربا من بئر الفساد فكيف سيفهمان الناس؟

*****
مجتمعنا مريض، فقد تشرب الفساد فيه حتى أصبح جزءاً من مكوناته. قولوا: مَنْ منكم لم يلجأ إلى واسطة لقبول ابنه في مدرسة أو لتخفيض فاتورة مستشفى أو تأمين سرير على حساب وزارة الصحة أو للحصول على وظيفة دولة؟ من منا لم يلجأ إلى رشوة دركي من أجل مخالفة أو حتى غضّ بصره عن خيارات المؤسسة التي يعمل فيها أو مصدر تمويلها؟ من؟ ألا تجتمع العائلة بقضها وقضيضها لإدخال «الصبي» في سلك الجمارك؟ لماذا الجمارك؟ «لأنو فيه استفادة» تقول الوالدة الحنونة لابنها. ألا تدب العائلات الصوت بين المتنفذين ليصبح ابنها خريج الحقوق قاضياً؟ هل أنا بحاجة فعلاً لأشرح لكم؟ فليتفحص كل ضميره. وعندها، سنرى من سيجرؤ على رفع هذا الشعار.
من ناحية أخرى، هناك ملك ووزير عرفا بأن البئر مسمومة ولكنهما عجزا أو لم يرغبا بالشرب أو المداواة، ومع ذلك استمرا في الحكم. هذا هو حكم الأحزاب الوطنية المشاركة في السلطة التي لطالما مثلتنا: فهي عرفت أن البئر فاسدة لكنها فضلت معالجة أولويات أخرى، وطنية صحيح، لكنها لا تستقيم من دون تحرير المواطن من الظلم. في المقاومة كان البعض يقول: «مش وقتها هلق»، حين كانت إسرائيل في الجنوب، مع أنه في بدايات المقاومة، وتحديداً أيام الأمين العام السابق عباس الموسوي، كان هناك عنوان داخلي يقوم على المطالبة برفع الحرمان عن الناس في حياتهم اليومية، فلِم لَم تترافق هذه الأولوية مع أولوية تحرير الأرض؟ لِم جرى التخلي عن أولوية رفع الظلم عن الناس؟ إنّ مسؤولية كبرى تقع على تلك الأحزاب ومنها المقاومة، لأنها ارتضت للشعب أن يتحول إلى مجرد جمهور، بدلاً من تثويره على واقعه الاجتماعي. فجمهور هذه الاحزاب هو الغالبية الساحقة من الناس، فكيف لا يكونوا أولوية؟ أما الحزب الشيوعي «اللي مش بعين حدا»، فقد جره شبابه إلى التحرك في برجا، حيث انطلقت شرارة الحراك الأولى، بالتضامن مع... شباب الجماعة الإسلامية، فهو خير مثال عن كيف ينطلق الشباب معاً من دون إلغاء بعضهم ولا إلغاء أفكارهم ليصنعوا سوية وطناً.
في القصة أعلاه، أحب أن أتخيل كلاً من شربل نحاس وحنا غريب (وجورج قرم على سبيل المثال لا الحصر) حصانين من خارج السباق. أحدهما كان وزيراً والثاني أستاذاً نقابياً مناضلاً. نزلا البئر محاربين ولم يتلوثا: الأول تحول إلى عدو حقيقي للساحرة لأنه كان «يداوي الناس» من جهلهم، والثاني جرب التغيير من الداخل لكنه خرج نظيفاً أمامنا كلنا فانخرط بالحياة المدنية المناضلة.
أما محبو التجهيل والتعميم والهاشتاغ «اللي بتضرب»، والنخبوية الثورية المهذبة والفاشية، خالطو الحابل بالنابل والمعاونون في تفريق الناس عن التحرك ومسببو تجهيل الفاعل الأساسي من سحرة النظام، فماذا يقال لهم غير «فليرني الله فيكم يوماً»؟
وكلكم يعني كلكم.

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم