يحكى في بعض صالونات بيروت المعروفة الهوى، أن ميشال عون فقد حظوظه في أن يكون رئيساً للجمهورية. الأسباب التي يؤمن بها سُمار تلك الصالونات هي نفسها، منذ زمن السلطنة والانتداب: الخارج يرفضه. فيتو هذه العاصمة ومزاجية ذلك الحاكم أكبر من قدرة أي داخل على الكسر أو الخرق. ويحكى في الصالونات نفسها، أن المأزق الذي وصل إليه أوصياء البلد وانتدابيوه، يمكن تشخيصه وتلخيصه بالمعادلة التالية: صحيح أن رئاسة الجنرال باتت مستحيلة. لكن، في المقابل، لا يزال مستحيلاً تخطيه لانتخاب رئيس سواه.
فمن جهة المجلس النيابي، ثابتة لا تتزحزح أن نبيه بري لا يمكن أن يقدم على تغيير نصاب انعقاد الجلسة. الثلثان ممر إلزامي ثابت ودائم. ومن جهة أخرى، حسن نصرالله ثابت في موقفه مع عون. لا يتغيّر ولا يتبدّل. حتى ولو حصل أن تراجع الجنرال عن ترشيحه، سيذهب السيد إليه لإقناعه بالتراجع عن التراجع. ليست المسألة عند نصرالله وفاء لجميل سابق. بل هي مصلحة مقاومة ووطن وشعب ومستقبل آت، وسط طبقة سياسية، كل مرشحيها مؤهلون لأن يتحولوا من «يعيش الضابط السوري معين ظاظا، إلى تحيا المملكة العربية السعودية»، كما يحدّد إيلي الفرزلي، بالوقائع الحرفية، مسار رئيس صدفة مضت.
هكذا صار المأزق لدى هؤلاء أن لا نصاب لجلسة، حتى ولو لا رئاسة لعون. فهو وحليفه وحلفاؤهما، يملكون بالتمام والكمال، 43 صوتاً في مجلس النواب على الأقل، كافية لرفض أي وصاية وأي انكشاري. حتى ولو طبخ في نيويورك أو في أي مكان آخر من العالم.
ويحكى في الصالونات نفسها أن هذا المشهد هو ما دفع أحد أقطاب الأكثرية الحكومية الحالية إلى اجتراح فكرة لخرق «ثلث التفاهم» من داخله. كيف؟ عبر طرح اسم سليمان فرنجيه. تخيلت الفكرة بأن مجرد الحديث عن رئيس تيار المردة كمرشح رئاسي، سيؤدي إلى خلخلة التفاهم الصلب. على طريقة الدومينو التالي: يتحمّس فرنجيه، يرفض عون، يحرج حزب الله. فتنتهي المناورة إلى تفكيك النواب الثلاثة والأربعين، بما يكفي على الأقل لإنزالهم تحت عتبة الثلث. بعدها يصير التفاوض مع من يتفلّت منهم، على ما بات يمثل خارج صفه وفريقه وموقعه الأول. أي على تسوية يكون فيها فريق الأكثرية الحكومية هو صاحب الكلمة الأولى والأعلى، والملتحقون هم أصحاب الحاجة إلى أي تسوية تنقذ ماء وجههم.
يحكى في الصالونات نفسها أن الحجر الأول من تلك اللعبة رمي عبر رسالة غير مباشرة، وصلت إلى حزب الله. جاء جواب الضاحية: لتكن المبادرة إما خطية مكتوبة وموقّعة، وإما علنية وإعلامية، كي نجيب عليها. ذهب غراب المبادرة ولم يعد، حتى ضاعت الرمية سدى. لكن أصداءها وصلت إلى المعنيين والحلفاء. وفهم هؤلاء سريعاً أي كمين يراد لهم منها. فكان كلام سليمان فرنجيه في جلسة الحوار الأخيرة، رداً غير مباشر على تلك المحاولة. حين سأل رئيس المردة عن استحالة تعديل الدستور، لم يكن يطمئن عون. بل كان يجيب على أصحاب الفخ، بكشف المرحلة الأخيرة من مناورتهم ورفضها مسبقاً. كان يقول لهم، ببراءة وتبسيط: مناورتكم بجس النبض حيال ترشيحي، تهدف في حقيقتها إلى إحراق ترشيحين معاً: ميشال عون وسليمان فرنجيه. بحيث تصلون إلى مرشح ثالث غير دستوري. من الآن نقول لكم: هذا خيار مستحيل...
على سيرة صالونات بيروت ومناوراتها والحكايات، يروى أن أهل تلك الصالونات يفهمون تماماً رد فعل وزير الداخلية حيال ما نشر عنه وعن بنك المدينة. فالمسألة تتخطى رداً على اتهام بإفادة غير مشروعة أو إيحاء بصرف نفوذ، أو دحضاً لشبهة فساد في الزمن الأكثر سواداً. خصوصاً أن نهاد المشنوق كان ضحية من ضحايا تلك الحقبة، أسقطته قبل أن تسقط، على عكس من رفعتهم قبل
سقوطها بالعمالة المؤكدة، وبعد سقوطها بالبطولة المزورة. يقولون في صالونات بيروت إن الرفض القطعي والجازم لأي علاقة ببنك المدينة، هو أولاً وأخيراً ممارسة لحق الدفاع عن النفس، في مواجهة خطر الموت. خطر الموت تماماً، لأن مفارقة غريبة جعلت كل عمليات الاغتيال أو محاولات الاغتيال، التي وقعت في لبنان في السنوات الإحدى عشرة الماضية، تطاول أشخاصاً ورد اسمهم في مكان ما، مترافقاً مع اسم بنك المدينة. ليس بالضرورة بين المرتكبين أو المتهمين. بل حتى ولو بين من حاولوا تقصي الحقائق، أو الحصول على وثائق، أو التوكل قانوناً أو التفسير مالياً وإدارياً... ثمة خيط مذهل يربط اسم تلك المؤسسة بأسماء كل ضحايا العنف السياسي في لبنان، منذ العام 2004. هي مفارقة قد تكون محض صدفة. وقد تكون أكثر ألغاز المرحلة السورية سوداوية ومافيوزية، وبالتالي أشدها التزاماً بقانون «أومرتا» أو صمت المافيا. لكن في شتى الأحوال، يظل مفهوماً ومنطقياً أن يتصرف أي إنسان حيال علبة الباندورا هذه، كمن يمارس حق دفاعه عن نفسه، لا ضد اتهام، بل ضد خطر الموت. حمى الله المدينة وأهلها.