كان من المفترض أن يناقش مجلس الوزراء في جلسته الاستثنائية اليوم الملفات الخاصّة بوزارة السياحة، ومنها ملف استثمار مغارة جعيتا الشهير، إلا أن الجلسة تأجّلت إلى موعد لم يحدد، ما طرح التساؤلات عن الأسباب الحقيقية لعدم تحديد موعد جديد للجلسة، ولا سيما أنها ليست المرّة الأولى التي يُطرَح فيها هذا الملف من دون اتخاذ أي قرار محدد في شأنه. فقد سبق لمجلس الوزراء أن ناقش الملابسات والشبهات المحيطة بقرار منح شركة «ماباس» امتياز استثمار مغارة جعيتا في جلستين عقدهما بتاريخ 18/3/2010 و25/8/2010، وذلك بناءً على طلب وزير السياحة فادي عبّود، الذي أحال عليه ملفاً مشوقاً يتضمن عرضاً تفصيلياً للمخالفات الدستورية والقانونية التي تنطوي عليها عملية منح هذا الامتياز وتمديد مدّته مرّات عدّة ومخالفات الشركة لواجباتها في عقد الاستثمار وشروطه المالية وشكاوى بلدية جعيتا من تجاوزات هذه الشركة وتعدّيها على حقوق الغير... إلا أن مجلس الوزراء قرّر حينها تأليف لجنة وزارية برئاسة رئيس الحكومة السابق سعد الحريري وعضوية وزراء الطاقة والمياه جبران باسيل والداخلية والبلديات زياد بارود والعدل إبراهيم نجّار والسياحة فادي عبود والمال ريا الحفّار الحسن والبيئة محمد رحال، وذلك لإعداد تقرير متكامل عن ملف استثمار المغارة ورفعه مع الاقتراحات المناسبة.
هذه اللجنة لم تُنجز عملها ولم ترفع تقريرها، نظراً إلى ثبوت الشبهة وتأكّد المخالفات، ما دفع الوزير عبّود إلى طلب إعادة طرح ملفه بكتاب أرسله إلى الأمانة العامّة لمجلس الوزراء في 15 أيلول الماضي، وهو ما فرض تعيين جلسة استثنائية لبتّه، سرعان ما أُلغيت.

إحراج كبير

في الواقع، يواجه مجلس الوزراء إحراجاً كبيراً في هذا الملف، فطرحه مجدداً يتزامن مع تحرّك رسمي واسع لدعم ترشيح مغارة جعيتا للفوز في مسابقة «عجائب الدنيا السبع الجديدة»، ويأتي أيضاً في أعقاب تسجيل سابقة بإبطال قرار صادر عن حكومة الرئيس فؤاد السنيورة في عام 2006 يمنح تعويضات لشركتي «ليبانسل» و «FTML» ويكلّف الدولة تسديد الضرائب عنهما بقيمة 73 مليار ليرة، وذلك لثبوت شبهة الفساد في هذا القرار، فضلاً عن أن عملية منح عقد الامتياز لشركة «ماباس» وتمديده جرت في الفترة بين عامي 1993 و1997، أي في عهد الرئيس الراحل إلياس الهراوي وفي ظلّ حكومة الرئيس الراحل رفيق الحريري، وكان وزير الدولة الحالي نقولا فتوش يتولى حقيبة وزارة السياحة حينها، وهو الذي أدار هذه العملية برمّتها، ما يجعله المسؤول الأساسي في حال إثبات المخالفات والتجاوزات، فضلاً عن أن الملف المطروح أمام مجلس الوزراء صدر فيه قرار عن مجلس شورى الدولة رقمه 585/95 بتاريخ 9/5/1996 يرى منح عقد BOT لاستثمار مغارة جعيتا بمثابة عقد إداري عادي، ولا ينطبق عليه نص المادة الـ89 من الدستور التي تنص على أنه «لا يجوز منح أي التزام أو امتياز لاستغلال مورد من موارد ثروة البلاد الطبيعية أو مصلحة ذات منفعة عامة أو أي احتكار إلا بموجب قانون إلى زمن محدود». وجاء في حيثيات قرار مجلس الشورى ما يأتي: «بما أن العقد B.O.T يختلف تمام الاختلاف عن امتياز المرافق العامة ولا يحتاج إلى تصديق السلطة التشريعية ولم يصدر بموجب قانون بل يخضع للأصول المرعية الإجراء بالنسبة إلى العقود الإدارية العادية».

قصص ولا بالخيال

بدأت قصّة هذا الملف، بحسب التقرير الصادر عن الوزير عبّود، عندما صدر عن وزير السياحة حينها (نقولا فتوش) القرار رقم 186 بتاريخ 18/11/1993، الذي أعطى بموجبه شركة «ماباس» حق استثمار مرفق جعيتا السياحي لمدة 18 سنة تبدأ بعد سنة ونصف من تاريخ إبلاغ الشركة القرار، إلا أن الوزير نفسه عاد وأصدر القرار رقم 27 بتاريخ 18/3/1995، الذي قضى بتمديد مدة الاستثمار لتصبح 21 سنة بدلاً من 18 سنة من دون توضيح الأساس القانوني أو الأسباب الموجبة، ثم عاد بتاريخ 12/11/1997، وجواباً على كتاب الشركة المستثمرة، فوافق (عبر توقيع ذيل الكتاب) على إعطائها مدة 4 سنوات إضافية على مدة الاستثمار، إلا أن الشركة وأصحابها لم تكتف بهذه التمديدات المتلاحقة، فعمد وزير السياحة السابق جوزف سركيس في ظل حكومة الرئيس السنيورة إلى إصدار القرار رقم 181 بتاريخ 20/11/2007، الذي قضى بتمديد مدة الاستثمار لأربع سنوات إضافية على المدة المحددة في القرار رقم 186 وتعديلاته، وبذلك ارتفعت مدة الاستثمار الأساسية بموجب القرار رقم 186 تاريخ 18/11/1993 من 18 سنة إلى 29 سنة تنتهي في عام 2022، من دون أي مسوّغ قانوني، سوى البناء على المخالفات السابقة.
لا تنحصر الشبهات في التمديد المتلاحق لعقد الاستثمار، بل تنطلق أصلاً من كيفية منح هذا الامتياز المهم لشركة خاصّة بقرار من الوزير ومن دون أي مرسوم أو قانون؛ إذ يشير الوزير عبّود إلى أن عقد الاستثمار الأساسي الصادر بتاريخ 18/11/1993 هو عقد BOT، ويمثّل عقد استثمار مرفق عام سياحي ومورد من موارد البلاد الطبيعية، وبالتالي يستوجب تطبيق المادة 89 من الدستور في شأنه، أي أنه لا يجوز منحه إلا بموجب نص قانوني، أو أقله تطبيق أحكام القانون رقم 58 تاريخ 5/7/1967 المتعلق بتنفيذ واستثمار المشاريع السياحية وما تفرضه من إجراءات ورقابة لم يجر احترامها في أيٍّ من تفاصيل عقد «ماباس».
هذه الإشكالية كانت مطروحة منذ البداية، وبالتالي كانت هناك حاجة إلى تغطية ما، فصدر عن مجلس شورى الدولة القرار رقم 585/1995 بتاريخ 9/5/1996، الذي أفتى بأن قرار الوزير فتوش بمنح عقد BOT لـ«ماباس» لاستثمار واحدة من أهم المغارات المكتشفة في العالم «يدخل في عداد امتيازات الأشغال العامة، وهو جاء في محله القانوني السليم»!
في ضوء هذا القرار الصادر عن القضاء الإداري، استسهل الوزيران فتوش وسركيس منح الشركة مدداً إضافية من دون أي حسيب أو رقيب وخارج أي تفسير قانوني واضح؛ إذ إن مغارة جعيتا تعدّ من ثروات البلاد الطبيعية، وهي ذات منفعة عامّة، وبالتالي لا يمكن فهم كيف عُدّ استثمارها من شركة خاصة كما لو كان هذا الاستثمار عقد أشغال عامّة، أي كما لو كان عقد تنفيذ طريق أو بناء استراحة! لذلك، طلب الوزير عبّود رأي هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل التي أصدرت مطالعة رقمها 354/أ.س بتاريخ 22/4/2010، فأكّدت الشبهات واستفاضت بها؛ إذ تحاشت هذه المطالعة التعليق على قرار مجلس شورى الدولة (لكونه قراراً قضائياً)، إلا أنها خلصت إلى ما يتناقض معه تماماً، فرأت أن تمديد مدة استثمار مغارة جعيتا بموجب قرارات متلاحقة صادرة عن وزير السياحة، آخرها في عام 2007، لم يراع الأصول والشروط القانونية التي فرضها القانون رقم 58/1967 المتعلق بتنفيذ المشاريع السياحية واستثمارها، إنْ لجهة إبرام عقود الترخيص أو التصديق عليها أو إجراء الرقابة عليها، ولا سيما أن المادة 8 من هذا القانون تجيز الترخيص بإشغال أملاك الدولة العامة لغايات سياحية «بموجب عقود تحدد مدة الإشغال وشروطه والبدلات المتوجبة عنه وتكون خاضعة لرقابة ديوان المحاسبة ويصدّق عليها بمراسيم تتخذ في مجلس الوزراء بناءً على اقتراح وزيري السياحة والأشغال العامة والنقل». ورأت الهيئة أن القرارات الصادرة عن وزيري السياحة فتوش وسركيس في ظل حكومتي رفيق الحريري وفؤاد السنيورة لا تستوفي الشروط المنصوص عليها في القانون، رغم أن قرار مجلس الشورى واجب التطبيق «لناحية ما فصّل به وفي حدود ما فصّل به» لكونه قراراً قضائياً.
مخالفات الاستثمار
ومثّلت مطالعة الهيئة حافزاً إضافياً لمطالبة مجلس الوزراء باتخاذ التدابير الآيلة إلى حفظ حقوق الخزينة ومراعاة المصلحة العامة، وذلك عبر إبطال كل قرارات التمديد السابقة، وإجراء تسوية تقضي باعتبار مدّة العقد الأصلي، أي 18 سنة، هي مدّة العقد الوحيدة، وبالتالي تنتهي في هذا العام، وهذا ما يسمح بإعداد دفاتر شروط جديدة لاستثمار المغارة وفقاً للقوانين المرعية الإجراء.
ويستند طلب وزارة السياحة إلى مخالفات أخرى ارتكبتها شركة «ماباس» خلال استثمارها للمغارة استدعت توجيه أكثر من إنذار إليها لتصحيح وضعها، وأبرز هذه المخالفات:
* رفض شركة ماباس حتى الآن تجزئة رسوم دخول مغارة جعيتا السياحي واستصدار بطاقات دخول للمرفق، وخاصة بكل خدمة يقدمها، ما يتعارض مع العقد ويرتّب كلفة كبيرة على الزوّار والسيّاح.
* رفض الشركة القيام بأعمال الصيانة والتأهيل، بما يحفظ المغارة ويصونها، ولم تراجع الشركة السلطات الإدارية للحصول على التراخيص والأذونات التي يتطلّبها القانون إلا عندما تدخّلت وزارة السياحة وحلّت محل الشركة المستثمرة لتسوية الأمر حفاظاً على المصلحة العامة.
* توجيه شركة ماباس التهديد والإساءة والإهانات إلى شخص وزير السياحة والإضرار بسمعته، ما استوجب الادعاء عليها مرتين أمام النيابة العامة التمييزية.
* مخالفة الشركة الأحكام القانونية والتنظيمية البيئية لجهة عدم استعمال الحفر الصحية وتحويل المياه المبتذلة إلى مجرى النهر، وهذا الأمر مثبت في محضر ضبط بلدي، وهو ما استدعى مراسلة وزير البيئة في هذا الصدد لإجراء الكشف اللازم والتحقق من المخالفة.
* مخالفة الشركة الأحكام القانونية والتنظيمية العمرانية بعدم استحصالها مسبقاً على التراخيص القانونية اللازمة للمباشرة بأعمال البناء والصيانة والتأهيل والترميم بحسب ما يثبته كتاب قائمقام كسروان الموجّه إلى المحافظ وتقرير مفصّل بمخالفات البناء صادر عن بلدية جعيتا.
أمام كل هذه المخالفات، اضطرت الوزارة إلى توجيه إنذار إلى الشركة المستثمرة تطبيقاً للمادة 18 من القرار رقم 186/1993 بغية تصحيح وضعها وفقاً للقوانين والأنظمة النافذة، إلا أن الشركة لم تلتزم كلّياً، بل ذهبت إلى أكثر من ذلك بارتكابها مخالفة خطيرة للمادة 12 من قرار الترخيص (رقم 186/1993) لجهة رفضها إجراء الرقابة على حساباتها المالية للوقوف على مقدار مداخيلها بجميع أقسامها وفروعها والتحرّي عن صحة قيودها المحاسبية، وفقاً لما تقتضيه الأصول المحاسبية العامة؛ فالمدير العام لم يوافق على مهمات التدقيق المكلف بها مدقق الحسابات «إرنست أند يونغ» للسنة المنتهية في 31/12/2009، ولم تُعَدّ تقارير التدقيق الفصلية عن مداخيل الشركة بحسب ما توجب المادة الـ14 من القرار رقم 186/1993، وهذا ما دفع بمدقق الحسابات المذكور إلى الاعتذار عن متابعة المهمة الموكلة إليه في الفترات اللاحقة للاستثمار.



الإعجاب وتعميم التجربة

أبدى مجلس الوزراء في قراره رقم 5 تاريخ 6/3/1996 إعجابه بالطريقة التي اعتمدها وزير السياحة حينها نقولا فتوش لمنح شركة «ماباس» عقد BOT لاستثمار مرفق جعيتا السياحي. وبحسب المحضر رقم 36، رأى مجلس الوزراء أن هذه الطريقة تضمن حسن التنفيذ والإشراف والمردود للخزينة، مؤيّداً ملاحظات منظمة السياحة العالمية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي الداعية إلى تخفيف شروط منح العقود أكثر، ومبدياً موافقته المبدئية على اعتماد هذه الطريقة لتنفيذ المزيد من المشاريع السياحية وتفويض الوزير إجراء العقود اللازمة في شأنها.

280 ألفاً

عدد زوّار مغارة جعيتا سنوياً. وبلغت الأموال التي حوّلتها شركة «ماباس» إلى الخزينة 2.2 مليار ليرة في عام 2009؛ حينها بلغت الإيرادات الإجمالية للحكومة من «المناطق السياحيّة» 2551 مليار ليرة. أمّا في عام 2010، فقد ارتفعت تلك الإيرادات بنسبة 47.2% إلى 3754 مليار ليرة.