ليست المرة الأولى التي يجسّد فيها الأقطاب المسيحيون في لبنان وحدة موقف، على خلفية أن وحدة الصف شبه مستحيلة واقعاً وغير صحية ولا مطلوبة أصلاً. ذلك أنهم قبل 23 عاماً عاشوا لحظة مطابقة لما يقبلون عليه اليوم. كانت الظرف بخطورة السياق الراهن. وكان تصرفهم بداية كارثة عليهم، تفاقمت مع تصرف أكثر كارثية لشركائهم، ما انتهى إلى مأساة ظل الجميع يدفع ثمنها طيلة عقد ونيف. فهل يكررون النمط نفسه، وهل يعيد الشركاء التصرف ذاته؟ أم أن ثمة من تعلم؟
تماماً كما هو السياق الراهن، هكذا كان ربيع العام 1992. يومها كان نظام الوصاية، بترويكاه الخارجية، قد استكمل احتلال الأرض بعد 13 تشرين الأول 1990. وكان يحضر لاستكمال احتلالين اثنين ملازمين وضروريين لاستمراره واستقراره: احتلال المؤسسات، واحتلال البشر. الاحتلال الثالث والأخير كان عليه أن ينتظر سلسلة خطوات بنيوية عميقة في قلب المجتمع والدولة. كان أبرزها صفقة التجنيس في حزيران 1994. لكن احتلال المؤسسات كان ملحاً، وكانت خطوته الضرورية انتخابات تشريعية سنة 1992.
هكذا فجأة، ومن دون أسباب موجبة ولا فذلكة تفسيرية، ورغم أن الوصاية نفسها كانت قد مددت لمجلس الطائف حتى نهاية العام 1994، قررت فوراً إجراء الانتخابات. لم يلبث المسيحيون أن أحسوا بخطورة الخطوة. فبدأوا سلسلة من المباحثات والمفاوضات. بعضهم ذهب إلى دمشق، ليعود منها خائباً: القرار اتخذ وعليكم التنفيذ. بعضهم الآخر لجأ إلى الأميركيين. فكانت صدمتهم أكبر: ألم تدركوا أن الطائف بالنسبة إلينا يعني تكريس الوصاية السورية، لا إنهاءها؟! أما ما ورد في النص من مهل وأدبيات سيادة، فليس إلا من باب «الفازلين» الشهير الذي تحدث عنه ميشال عون قبل سنتين ... بعض ثالث فكر حتى باللجوء إلى القوة. لكن دولة العسكر كانت جاهزة دوماً، تأتمر بمن يأمرها... حتى سُدّت السبل.
عندها فتحت لهم بكركي أبوابها. في غضون أسابيع قليلة صار الصرح محجتهم ومربط خيلهم. من عونيين وقواتيين خارجين من محنة الدم، إلى كتائب ــــ بكل انقساماتهم يومها ــــ وأحرار وكتلويين ومستقلين... كلهم تحلّقوا حول البطريرك، رافعين شعار المعارضة ومقاطعة الانتخابات النيابية. حتى كان لهم ما أرادوا. يوم أحد انتخابات جبل لبنان، احتفل المسيحيون بالصناديق الفارغة، وبتغلب كسروان على نصاب الترشيح حتى، فيما ظلت جبيل تهزأ من أصوات نائبيها حتى اليوم.
لكن ما غفل عنه أقطاب المسيحيين يومها، هو السؤال: ماذا عن اليوم التالي؟ وفي غياب طرح هذا السؤال، وبالتالي في غياب أي تصور له، قام مجلس الـ 92 على خروج المسيحيين منه. حتى خرجوا من الدولة، ولما يعودوا إليها فعلياً أو كلياً بعد.
شيء من تلك المشهدية، مع فوارق في التفاصيل والأطراف والأدوار، يتكرر اليوم على الساحة اللبنانية، بين المسيحيين وشركائهم والدولة. لأسباب مجهولة أو معلومة، قرر نبيه بري فرض جلسة تشريعية، من دون معالجة قانون الانتخاب. وسرعان ما اتضح أن رئيس المجلس يتصرف كممثل للثنائية الشيعية كاملة. وسرعان ما اصطف فريق السنية السياسية خلفه. فيما وليد جنبلاط يتابع مشقة السير بين ألغام أراضيه الممتدة من السويداء حتى الشويفات... هكذا صار المسيحيون فجأة وحدهم. بالوجهين الإيجابي والسلبي لوحدانيتهم تلك. وحدهم، ما أظهرهم موحّدين نسبياً، ولو حول موقف جزئي. ووحدهم، ما جعلهم في مواجهة باردة مع شركائهم في الوطن كافة. لكن الأخطر في معادلة «الوحدة» و»التوحد» تلك، أن التقاطع المسيحي، وللمرة الثانية بعد 23 عاماً، لا يتم إلا على مجرد الرفض. لا على قدرة على الطرح أو الفرض. يتوحّد المسيحيون مرة ثانية على السلبية. من دون أن يظهروا مرة أخرى، وحتى اللحظة، قدرة على وحدة إيجابية. التقوا على قولة «لا»، فيما لا يزالون عاجزين عن بلورة أي «نعم»، في موضوع قانون الانتخاب كما في رئاسة الجمهورية، كما في رؤيتهم لتطورات ما حولهم وأفق الوطن والمنطقة وتصور لبنان في ضوء كل تلك.
في هذه المعادلة بالذات تكمن خطورة اللحظة كلها. في أن يحقق المسيحيون وحدتهم حيال جلسة تشريعية، أياً كان جدولها ونتيجتها، وفي أن ينتهي مشروع وحدتهم مع نهاية تلك الجلسة. ليست المسألة في أن تحصل الجلسة أو أن يكسر الموقف المسيحي. بقدر ما هي في أن يكسر المسيحيون شراكتهم مع أطراف الوطن، من دون مشروع لهم ولشركائهم وللوطن نفسه. فيما كل الخيارات الوطنية متاحة أمامهم. بدءاً بطرحهم قانون انتخاب، حتى على قاعدة لبنان دائرة واحدة وعلى أساس النسبية، وصولاً إلى طرح الدولة المدنية الكاملة، من دون فاصلة ناقصة ولا استثناء منقوص. باختصار، مقاطعة جلسة تشريع لا تستأهل مشكلاً مع شركاء وحلفاء. أما اقتصار التقاطع المسيحي على ذلك الرفض فكارثة للجميع. فيما وحدها مبادرة مسيحية إلى حل شامل، قد تشكل إنقاذاً جدياً. والاستحقاق في هذا السياق، ليس يوم الخميس المقبل، بل ما بعده وما بعد ما بعده.