يوسف كلوت*يتعرَّض التعليم النظامي ومهنة التعليم في الثانويات الرسمية والخاصة، منذ سنوات، لمخاطر تفكيكيّة غير مسبوقة، بسبب انتشار غير قانوني لشقق وطبقات تُطلق على نفسها اسم «معاهد تعليمية»! فهذه المُسمَّاة «معاهد» ليست مدارس أكاديمية أو مهنية خاصة مرخصة أو خاضعة لرقابة وزارة التربية، بل هي حالة غير قانونية قائمة على التجارة، باتت تتكاثر كالفطريات، وتتوسع حتى أصبح بعضها يضم صفوفاً بعدد صفوف المدارس النظامية القانونية.

تبدأ هذه «المعاهد» عملها التجاري باستغلال عنوان الامتحانات الرسمية مطلع كل عام دراسي، طارحةً نفسها بديلاً عملياً من الثانويات الرسمية والخاصة وأساتذتها، بديلاً غير نظامي يضرب منطق التعليم النظامي ومهنة التعليم وما تتوخاه الدولة منهما من تحقيق مبادئ وأهداف تعليمية ومعرفية وتربوية ووطنية، ولا سيما في مواد العلوم الإنسانية والاجتماعية.
تتوسَّل «بروباغندا» ضمان النجاح في الامتحانات الرسمية بأقل جهد
وتتوسَّل لاجتذاب التلامذة وأهاليهم «بروباغندا» تقوم على فكرة ضمان النجاح في الامتحانات الرسمية بأقل جهد ممكن باستخدام أسماء أساتذة ثانويين رسميين لهم أدوار في عملية تصحيح الامتحانات الرسمية أو في مكتب الإرشاد يعملون لديها، فتوحي من خلالهم بأن لديها اطلاعاً على كواليس وضع المسابقات الرسمية، وبأنها قادرة على تدريس المواد بما يتناسب مع ذلك، وتقديم ترجيحات أسئلة قد يُطرح منها في الامتحانات الرسمية كما هو الشائع بين التلامذة! فتستدرج بهذا العرض طلب التقاعس المرضي لدى التلامذة وتنمِّيه، حيث يفكِّك المنطق الجامع للمعلومات في المواد المقررة بتجزئتها إلى قِطَعٍ على قياس ما طُرح في الامتحانات الرسمية، ما يجعل التلميذ دون حافز يدفعه إلى التركيز في الصف النظامي وبذل الجهد التراكمي اليومي في البيت، وكأن المواد ومعارفها قد وُضعت دون منطق ولأجل الامتحانات الرسمية فقط! فتكون والحالة هذه قد خلَّعت في آن السوية المنهجية والسوية التعلُّمية والسوية التقويمية لدى التلميذ!
هذا العمل التفكيكي، الذي يقوم على تزييف فكرة التعليم الخصوصي الفردي، أضحى بفعل الحالة الإعلامية التي تُبثّ، والإغراءات التي تُقدّم، ظاهرة قهرية تأسر أعداداً كبيرة من التلامذة، الذين أصبحوا بسبب ذلك ينتسبون عملياً للثانويات الرسمية والخاصة بغية الحصول على بطاقة الترشيح للامتحانات الرسمية فقط، فيأتي الواحد منهم إلى الصف النظامي صباحاً وفي ذهنه أنه ذاهب عصراً إلى تلك الشقق المُسماة معاهد ليأخذ ــ كما يرددون على مسمعه ــ ما يُفيده في الامتحانات الرسمية فقط! فيعيث في الصف الصباحي النظامي شغَباً وقِلَّة اهتمام وتركيز، ما جعل صفوف الثانوي الثالث في معظم الثانويات بيئة غير صالحة للتعليم النظامي وممارسة مهنة التعليم المُحدَّد المبادئ والأهداف من الدولة اللبنانية، وهو ما سبَّب ويُسبِّب للأساتذة توتراً مستمراً ومعاناة كبيرة. إلى هذا، فإن الدورات شبه المجانية التي تُنظَّم من غير جهة تعمل وفقاً للمنطق نفسه الذي تعتمده هذه «المعاهد». وبما أنها تبدأ بعد فترة وجيزة من بداية العام الدراسي، فقد أصبح أثرها السلبي على التعليم النظامي ومهنة التعليم ومكانة الأساتذة وراحتهم، تماماً كما أثر تلك المُسماة معاهد.
عدا عن ذلك، فإن هذه الظاهرة اللامهنية واللاقانونية واللانظامية تؤسِّس لتعليم موازٍ ذي صفة نفعية تجارية بحتة يُعزِّز الجانب الاستهلاكي لدى التلميذ! في مواجهة تعليم وطني قانوني نظامي مهني هادف وتراكمي يقتضي التركيز والجهد المتواصل الذي يعزز الجانب الإنتاجي لدى التلميذ.
لقد أصبح هذا النمط من تخريب التعليم النظامي القانوني ومهنته مستشرياً إلى درجة لافتة؟! فكيف يُعقل أن لا يُسمح لمركز تجميل بأن يفتح دون رخصة ومتابعة من وزارة الصحة، ويُسمح لتلك المُسمّاة «معاهد» بأن تستبيح الثانويات والتعليم النظامي وحرمة الأساتذة ومهنة التعليم دون حسيب أو رقيب أو اعتراض؟

* أستاذ في ملاك
التعليم الثانوي الرسمي