يُبذل جهد كبير لجعل "الفساد" حالة عادية جداً. هناك من يميّز بين فساد خبيث وآخر حميد. وهناك من يرتب الفساد بين مرتبة الكبير ومرتبة الصغير. كل ذلك هدفه تكريس منظومة فاسدة تعطّل إمكانية المحاسبة، حتى محاسبة موظف. في أروقة الجمارك، على سبيل المثال لا الحصر، الكثير من قصص الفساد المسنودة الى وقائع ومعطيات ثابتة، آخرها قصة موظّف متهم بالرشوة، اضطرت الإدارة الى نقله من وظيفة الى أخرى، بسبب كثرة الشكاوى عليه، إلا أن الإدارة نفسها تبحث اليوم عن طريقة لإعادته الى وظيفته السابقة، نتيجة تدخّلات مسؤولين في دار الفتوى وتيار المستقبل... الحجّة الجاهزة أن الإجراء "البسيط" القاضي بنقل هذا الموظّف هو إجراء "كيدي" لأسباب سياسية ومذهبية.في 22 تموز الماضي، أرسلت وزارة المال كتاباً إلى مديرية الجمارك تطلب منها التحقيق في معلومات وردتها عن خ. ط.، أمين صندوق في دائرة المحاسبة في مرفأ بيروت. يقول الكتاب إن المعلومات تفيد بأنه يتقاضى "إكرامية" عن كل معاملة يقوم بإنجازها. بعد شهر، في 26 آب الماضي تحديداً، أصدرت المديرية مذكرة تقضي بإلحاق مجموعة من «الجمركيين» في مراكز جديدة بدل مراكزهم القديمة، منهم الموظف المذكور، وذلك «دعماً للقوام في بعض المراكز»!
بداية، سُمّيت "الرشوة" في كتاب وزارة المال على أنها "إكرامية"، في حين ان إدارة الجمارك لم تفعل أي شيء سوى نقل الموظّف المرتشي من مركز الى آخر. وعلى الرغم من أن التحقيقات الجارية والإفادات والشهود والشاكين قدّموا ما يكفي من الأدلة لإحالة المتهم الى القضاء المختص وتقديمه الى محاكمة عادلة، إلا أن القصّة سارت بالعكس تماماً، إذ قامت قيامة بعض المسؤولين في دار الفتوى وتيار المستقبل ضد الإجراء البسيط المتخذ، وهو ما جعل الإدارة تفكّر في التراجع عن هذا الإجراء، وتبحث في إعادة الموظّف الى مركزه السابق، بحجّة أن "التحقيقات ما زالت جارية ولم تصل الى نتيجة بعد"، وفق المعلومات المتداولة في الجمارك.
ضغوط لإعادة موظف متّهم بالرشوة الى مركزه السابق

الفساد يعيث بالجمارك، وهذا معروف، بل إن وزير الأشغال العامة والنقل السابق غازي العريضي كان قد ذكر في مجلس الوزراء أن الإيرادات الفائتة على الخزينة العامّة تتجاوز 1.4 مليار دولار سنوياً في مرفأ بيروت بسبب هذا الفساد. ولكن يبدو أن قصّة هذا «الجمركي» الـ«titan»، كما يصفه العملاء الجمركيون ومخلّصو البضائع، تجاوزت "النظام" المعمول به، أو بمعنى آخر "فاتح على حسابه"، ما دفع بعض "الراشين" الى الشكوى منه. تقول الشكاوى إن الموظف المذكور يتقاضى "الإكرامية" مرتين وثلاثاً عن المعاملة نفسها طيلة أربع سنواتٍ من عمله هناك. قبل فترةٍ وجيزة، علا الصراخ عند شباك أحد الصناديق في المرفأ، بعدما حضر أحد العملاء الجمركيين «لأخذ إيصال المعاملة من خ. ط.، ففوجئتُ بأن ليس لديه إيصال لي، وبأنني لم أدفع، وكنت حينها قد دفعت للمرة الثانية عن معاملة واحدة». يشكو هذا العميل ما حدث معه، ويستدرك بأن ما يقوم به هذا الموظف ليس استثناءً، فقد حدث مع كثيرين قبله.
يتحدث عدد من العملاء عن «حيل هذا الموظف، فيقول لنا في بعض الأحيان إننا لم نعطه المال أو إن المبلغ ناقص، وفي أحيانٍ أخرى لا يعطينا إيصالاً، وعندما نأتي لنطلب الإيصال يقول لنا إننا لم ندفع». وثمّة شهادات أخرى تتحدّث عن «سرقات أهلية بمحلية من صناديق الزملاء».
ينفي الموظّف المتهم كل الاتهامات الموجهة اليه، ويردّ بأنه «حكي مرضى عقليين». ويوضح المدير العام للجمارك، شفيق مرعي، أن «إلحاق» خ. ط. بمركز آخر هو «تدبير احترازي مؤقت بانتظار انتهاء التحقيق الذي تقوم به المصلحة المختصة». وربما بعد التحقيق قد يثبت أنّه «ليس ضالعاً»، وعندها ستكون عودته إلى مركز عمله في المرفأ «قيد الدرس، حسب حاجة المركز»، يتابع مرعي.
الأدلة والشهادات لا تثبت شيئاً عندما يكون الموظف «محمياً»، هذا ما يقوله «أهل البيت» في الجمارك نفسها. تقول المصادر إنه في ظل «الحماية»، أقصى ما يحصل «النقل المؤقت ريثما تهدأ الأمور». وفي حالة خ. ط.، ومثله كثر «جابتهم الواسطة الى الجمرك»، ستفعل «الواسطة فعلها لحمايته»، وهو «مسنود كفاية»، يقول هذا المصدر. و«السندة» هنا، بحسب من «احتكوا به»، كانت «من الجهة التي ينتمي إليها؛ فهو معروف بانتمائه إلى تيار المستقبل، يعني 14 آذار»، هكذا، يعرّف غالبية العملاء عن أمين الصندوق «نتيجة احتكاكنا به وهو يجاهر بهذا الأمر». ولهذا، وبحسب المعلومات المتوافرة، «فقد لجأ إلى مرجعيات المستقبل مستنداً إلى القول إن قرار النقل ناتج من تقرير صادر عن وزير المال (8 آذار)، وبالتالي هو استهداف لموظف سنّي تابع لتيار المستقبل، وهذا ما استدعى توسطه أيضاً لدى دار الإفتاء». وهو ما نفته الدار، على لسان المسؤول الإعلامي خلدون القواص، الذي «نفى نفياً قاطعاً هذه المعلومات». لكن، ماذا عن ردّ المديرية عن هذا الأمر؟ يقول مرعي إنّه «لا ضغوط من أحد حول هذا الموضوع، ولكنّ هناك تعاطفاً من بعض الجهات بأن هذا الإنسان مظلوم».
إذاً، تعاطف وليس تدخلاً أو ضغوطاً. هكذا تلطّف الأمور. وهذه ليست لطافة تنحصر في قضية خ. ط.، فثمة خ. ط. كثر مسنودون إلى الطائفة وإلى التيار السياسي، وليست حكراً عليه في الدولة «المبنية على فسادٍ مزمن»، يأسف المصدر في الجمارك.