يتصف البطريرك بشارة بطرس الراعي بشجاعة عالية، فها هو بالأمس يقتحم الأخطار كلها، ويشارك في وليمة أقامها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي على شرفه في السرايا الحكومية. ورغم أن المسافة الفاصلة بين مقر الراعي والسرايا الحكومية ليست بالشاسعة، إلا أن مجرد عبور الراعي في مناطق انتشار الرعايا والكنائس المسيحية، ولو بأمتار، سابقة في الشجاعة، يجب أن تسجل له. في منتصف عام 2010 وقعت جريمة شنيعة في كترمايا ـــــ قضاء الشوف، وردّ الأهالي على شناعة الجريمة بجريمة أخرى أشنع، حيث مثّلوا بالجاني وقتلوه ثم انتقموا من جثته. حينها العنصرية اللبنانية لم تهتز، ولم يحاكم أحد أحداً على التمثيل بالجاني، والأهم لم تجرِ الدعوة الى عدم إيواء الأغراب في مناطق الصفاء اللبناني. ربما لأن الراعي لم يكن يومئذ على رأس الكنيسة المارونية، وربما لأن سكان المنطقة لا يتصفون بالصفتين المكمّلتين للانتماء الوطني، فأولاً يجب أن تكون لبنانياً، وثانياً مسيحياً، وربما يفضل أن تكون مارونياً.
العنصر اللبناني يجب ألّا يختلط بالعناصر الآخرين، فهم دون، ومجرمون، ويحسدوننا على التفوق الذي وهبنا الله إيّاه، وهم لا ينفكّون يترصدون العنصر اللبناني بالشر، وعلينا إبعادهم والتعامل معهم بحذر شديد، واستخدامهم في الأشغال التي تناسب تدني مستواهم العرقي. هكذا يرى اللبنانيّون، الآخرين، وهم أحرار في التناتش المذهبي والتحريض المتبادل بعضهم على بعض، دون أن يضير ذلك كله طائفيتهم السوداء، المستعدة دائماً للّجوء الى العنف والقتل، وأيضاً تفوقهم العرقي.
ثم إن هذا النظام الطائفي هو ما يود الراعي أن يراه دائماً، وهو على ما يبدو مستعد لدعم كل التخلف في العالم والمحيط للحفاظ على هذا النظام الطائفي القائم، من دون أن يربط السبب بالنتيجة، لا بل خلال لقائه مع أطفال من الصف الثالث الثانوي في مدرسة رهبانية يقول «إننا بحاجة الى الفصل بين الدين والدولة، واحترام الأديان وعيش المساواة». ويصل في موقفه الثوري الى المطالبة بتصحيح قانون الأحوال الشخصية، والى اعتماد الزواج المدني الإلزامي للجميع، قبل أن يستنتج من كل كلامه «نحن مع تطوير صيغة الطائفية السياسية، لكن نحن لسنا مع إلغائها».
شجاعة هائلة يتسم بها البطريرك، الذي تحتفل بمواقفه قوى الثامن من آذار، فها هو ومع جريمة أقل شبهاً بما حصل في كترمايا يدعو «جميع الرعايا والكنائس إلى عدم إيواء أجانب غير مسيحيين، وإلى تنظيم العمالة الأجنبية من أيّ جنسية كانت، وإخراجها من العشوائية، ومراقبة التصرفات والتحركات»، ناسياً أن من ارتكب أول سلسلة جرائم بحق سائقي السيارات العمومية كانوا مسيحيين، ويحملون الجنسية اللبنانية (هنا سيقفز شخص كنعمة الله أبي نصر ليشير الى أنهم كانوا مجنسين، مما يؤكد صحة نظريته، ولو كان يقصد بها عموماً الطوائف الأخرى).
وفي دعوة البطريرك الى رعاياه وعامة المسيحيين ما يحمل توجهات الوكالات الأميركية عقب عمليات الحادي عشر من أيلول الى الأميركيين بضرورة مراقبة العناصر الأجانب، والمواطنين ذوي الأصول الإسلامية. وها هو البطريرك يدعو الى عدم إيواء العنصر غير المسيحي.
لم يتطور العقل المسيحي الجمعي، كما يبدو، سواء أكان في العديد من مفاصل التيار الوطني الحر، أم في التشكيلات المسيحية الأخرى، وخاصة لدى الكنيسة، عما كان عليه عام 1943. لم يخطُ خطوة الى الأمام، ولا استفاد من التغييرات الجذرية التي أصابت البلاد والمنطقة والعالم، وكما يبدو لن يستفيد. لم تتغير نظرة المسيحيين الى أنفسهم أو الى بلادهم والى المجموعات الأخرى؛ فمن أجل ضمان مستقبل المسيحيين في لبنان يمكن الدعوة الى الحفاظ على نظام طائفي، يهددنا في كل إشراقة صباح بنزاع أهلي، يمكن التكهن أين يبدأ، ولا يمكن التنبؤ بنهايته. ومن أجل جريمة (على شناعتها) من أصل مئات الجرائم الحاصلة سنوياً في البلاد يمكنه أن يلهب الحس الطائفي لدى أبناء الملة، ليعيد تكريس الخوف والحذر.
مع كل مشاعر الكراهية للآخر، الأجنبي، غير المسيحي، ومع التطور الديموغرافي الحاصل، كيف يمكن البطريرك أن يرى إلى مستقبل المسيحيين في لبنان؟ بالامتناع عن المشاركة في تجارة العقارات وزيادة مستوى الربحية العقارية للبطريركية المارونية؟ بتقسيم البلاد أم بتحويلها الى محميات طائفية بحكم ذاتي؟ بالقتال من أجل منع إلغاء النظام الطائفي، أم سيره خطوات متواضعة الى الأمام، عبر قانون انتخابات نسبي؟ كيف يمكنه حماية المسيحيين الذين كلما سمعوا خطبة من خطبه، أو من خطب سمير جعجع، تأكدوا أكثر من ضرورة هجرتهم من هذه البلاد؟
لم يبق للراعي الشجاع إلا تأبط بندقية القوات اللبنانية، حين كانت ترفع شعار « أمن المجتمع المسيحي فوق كل اعتبار».