زعم الخليلُ "أنَّ الصلَفَ هي مجاوزةُ قدَر الظّرْفِ، والادّعاءِ فوق ذلك تَكَبُّراً". على ذلك، الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، صلف وقد تصلّف. هو يعمل على فرض حقائق واقتناص فرص، كان عليه أن يقتنصها في زمن ماض. تبدل الظروف وتغيرها في الساحة السورية، لم يعودا متناسبين مع قدرة إردوغان على تفعيل القوة، التي يراها مفرطة جداً ويتحسّر على عدم تفعيلها.
تمرّ الساحة السورية، حالياً، بمرحلة انتظار تبلور توجهات الإدارة الأميركية الجديدة، مع تطلع روسيا وتبعاً لها الدولة السورية وحلفائها، إمكان تحقيق ما يشبه «تلزيم» الساحة أميركياً إلى روسيا، في حد أقصى، أو تفاهم ما، تحت السقوف المرتفعة للإدارة الحالية. هو أمل ورهان على فعل مستقبلي غير محسوم، لكنه من ناحية موسكو، تحديداً، يستأهل الانتظار.
مقابل ذلك، تعيش الجماعات المسلحة على اختلافها، حالة خليطة من القلق وفقدان القدرة على التغيير الميداني، ومنع الأسوأ الذي يلوح في الأفق، مهما اتجهت مقاربات اللاعبين الرئيسيين في الساحة السورية. مع ذلك، تراهن هذه الجماعات، من منطلق الآمال والتمني، على تبلور واقع مختلف عما هو مقدر لها، نتيجة تضارب المصالح بين الكبار، علّه على هامش هذا التضارب يحمل تغييراً من شأنه أن يحدّ من خسائرها ويؤجل ربما اجتثاثها.
الأمر ذاته بما خص الحلفاء المباشرين للولايات المتحدة، وتحديداً الكرد، الذين باتوا يتموضعون دفاعياً وينكفئون عن الفعل الهجومي وقضم أراضٍ، بعد شبه تخلّ أميركي عنهم، في أعقاب التدخل العسكري التركي المباشر.
من ناحية تركيا، تمضي أنقرة في مشروع القضم النسبي في سوريا، على أمل الترسيخ اللاحق للقضم. هي تشبه سيلاً من ماء لا يقف إلا أمام سدود وموانع جغرافية، وإلا فانه ينجرف حيث يمكنه. الضربة الجوية السورية بالقرب من مدينة الباب، وما سبقها من قول وفعل سوريين، جاءت لتضع سدّاً أمام المياه التركية في سوريا وتمنع انجرافها. لكن، هل وصلت الرسالة؟ وهل تكون كافية لفرملة الاندفاعة التركية؟
تبدو أنقرة أنها تنظر إلى ما لديها، من قدرة وإرادة فعل متساويتين، وهي غير ذلك. ولى الزمن الذي كانت فيه القدرة العسكرية هي الدافعة فقط للفعل، دون ربطها بالظروف وبإمكان تحقيق النتيجة والثمن والمخاطرة بإمكانات الفشل ربطاً بقدرة وإرادة الطرف الآخر على الفعل والإرادة المعاكسة.
توجه عارم وجارف إلى حد المجازفة الميدانية، للتوسع الإقليمي. توسّع لا تجد أنقرة حرجاً في الإعلان والكشف عنه، دون خوف من تبعاته، إذ إنها تجد في ضعف الساحات المتاخمة لها، في سوريا والعراق، دعوة للتوسع والقضم الإقليمي. بحسب مفهومها هي، هي محاولة لاسترجاع ما سلب من تركيا، أكثر من كونه قضماً من أراضي آخرين.

تمضي أنقرة
في مشروع القضم
النسبي على أمل الترسيخ
اللاحق للقضم


بعد أحادية القرار في تركيا، عمدت أنقرة إلى تفعيل استراتيجية تحقيق المصالح عبر التدخل العسكري المباشر في سوريا. العنوان العريض، مواجهة الكرد ومشروعهم الانفصالي، إضافة إلى تقاطع المصلحة وإن باختلاف المضمون مع الدولة السورية وحلفائها، وتحديداً روسياً، مكّن تركيا من فرض نفسها ميدانياً في سوريا، الأمر الذي أحبط المسعى الكردي، وفي ذلك مصلحة مشتركة لم تخل من البدء بمخاطرة من ناحية دمشق وحلفائها.
إلّا أنّ مواجهة «الخطر» الكردي، من ناحية تركيا، لم يكن سوى جزء من استراتيجيتها، فاستغلت «السماح» المعطى لها ميدانياً بحدود المطلوب لمواجهة هذا «الخطر»، باتجاه تحقيق ما أمكن من «استرجاع حقها» في سوريا، بمعنى القضم والتوسع الإقليمي، الذي حدوده تتسع لما يمكنها أن تصل إليه.
إلا أن ما كان ممكناً قبل التدخل الروسي، وقبله الإيراني، بات حالياً دونه مخاطرة وإمكان رد يوجب التأمل والتأني، ومن شأنه أن يفضي إلى ما لا تريده أنقرة، وتحديداً مواجهة عسكرية مباشرة. لكن في الوقت نفسه، راهنت ويبدو أنها لا تزال تراهن، على أن الآخرين، أي الدولة السورية وحلفاءها، وتحديداً الروسي، لا يريدون أيضاً المواجهة معها، رغم رسائل القول والفعل المرسلة من قبلهم إلى أنقرة بضرورة الحد من تطلعاتها ومحاولة فرض حقائق ميدانية عبر قضم مزيد من الأراضي السورية.
إلا أن إرادة التوسع لدى أنقرة، والشعور بفائض القوة، وتوقع زائد عن حده أن لا أحد يريد مواجهتها أو التسبب بمواجهتها، دفعها إلى التمادي. فكان لزاماً على الدولة السورية، وربما أيضاً بالتبعية أو أيضاً كمصلحة بالتوازي، لزاماً على روسيا، أن تُفهم أنقرة خطورة خطواتها ودفعها إلى الامتناع عن تنفيذ مشاريعها التوسعية.
كانت رسالة الغارة الجوية، بالقرب من مدينة الباب، التي من شأنها أن ترسم بالدم التركي، حدود وقواعد الاشتباك ومنع تجاوز الحدود «المسموح» بها ابتداء مع الدخول التركي إلى سوريا، بما لا يتجاوز شبه المتفق عليه.
في العودة إلى السؤال: هل وصلت الرسالة؟ يبدو أنّ أنقرة أمام ثلاثة سيناريوات، ممكنة نظرياً، وقد تقدم في ظل إصرارها على استراتيجية فرض الحقائق الميدانية، أن تسلك أحدها:
التسمر في المكان، والاكتفاء بالحقائق الميدانية التي حققتها أنقرة إلى الآن، بمعنى منع الكرد من مبتغاهم، والاكتفاء بفرض نفسها ميدانياً في الساحة السورية، بما حققته، كطرف لا يمكن تجاوزه في مرحلة.
عدم سماع رسالة الغارة الجوية، رغم أنها صاخبة، ومواصلة العمل لتحقيق ما حذرت منه الرسالة، الأمر الذي يستتبع، على الأرجح، تدحرجاً نحو مواجهة مع الجيش السوري قد تدفع بدورها إلى مواجهة مع روسيا، من شأنها أن تكون حاضرة ابتداء لدى أصحاب القرار في أنقرة... فموسكو، التي كادت أن تصطدم مباشرة بالولايات المتحدة بعد التهديد الأميركي باستهداف الجيش السوري، لن تقف مكتوفة الأيدي ما دون التهديد الأميركي.
ثالثاً، وهو الأرجح في حال تحقق ظروفه، أن تنحرف الشهية التركية شرقاً، نحو الكرد، وأن تحل منبج مكان الباب... الأمر الذي ينذر بمزيد من المواجهات المباشرة مع الكرد، لن تقتصر على غرب نهر الفرات، بل من شأنها أن تنسحب أيضاً إلى شرقه.
وكيفما اتفق، في السيناريوات الثلاثة، يمكن القول إن تركيا ــ إردوغان حققت الحد الأدنى المطلوب للبقاء عنصراً فاعلاً ومؤثراً في الساحة السورية، في حال توجه الأمور نحو تسوية يحكى عنها مع تولي الإدارة الأميركية الجديدة مهماتها. لكن ما يخشى على أنقرة، إن كان هناك ضرورة للخشية عليها، أن تسلك سيناريوات متطرفة وتراهن على القوة الزائدة لديها كما تراها هي، من دون التفات إلى قدرة الآخرين وإرادتهم.