كان صادق العظم من أنشط المثقّفين العرب، وأكثرهم إسهاماً في العمل السياسي المباشر. لم يفهم العظم الثقافة على أنّها حيّز منفصل عن العمل السياسي الثوري—في حينه. أراد أن يجمع بين مهمّة المثقّف ومهمّة السياسي الثائر.
وكان العظم حاداً جاداً في سجالاته وهو خوّن خصومه واتهمهم بالعمالة تماماً على طريقة حزب البعث—الذي لم يعارضه (علانية على الأقلّ) إلا في سنواته الأخيرة—أي بعدما انتفض الشعب السوري على النظام القمعي في موسم الانتفاضات. قبل ذلك التاريخ، كان العظم مهادناً للبعث ومُقلّاً في إسهاماته للمعارضة السوريّة عندما كانت محليّة الصنع، وغير مرتبطة بالخارج. والتيّارات اليساريّة كانت دوماً جزءاً فاعلاً في المعارضة السوريّة لنظاميْ حافظ وبشّار الأسد.
والعظم برز بعد هزيمة ١٩٦٧. كانت كتاباته في مجلّة «دراسات عربيّة» في مجال ما دُرج على تسميته بـ «النقد الذاتي» بعد الهزيمة مقروءة على نطاق واسع. لكن إعادة النظر في تلك الكتابات يضعها في سياق مختلف تماماً على ما كانت مصنّفة عليه آنذاك. كانت تلك الكتابات مدرجة في سياق النقد الماركسي الجذري، لكن الذي يعود إليها الآن—خصوصاً بمنظور العلوم الاجتماعيّة الحديثة، أو بمنظور نقد الاستشراق الغربي والشرقي- ينفرُ من تضمنّها لكليشيهات تعميميّة واستشراقيّة كلاسيكيّة لا تندرج بتاتاً في العلوم الاجتماعيّة الحديثة. على العكس، تتصف تلك الكتابات (من العظم ومن أدونيس ومن هشام شرابي ومن غيرهم) بعنصريّة ضد العرب والمسلمين، وهي تضمّنت مغالطات حول رؤية العدوّ الإسرائيلي وفهم تفوّقه العسكري وقوّته. هذه الكتابات العربيّة التي جذبت جيلاً من الشباب العربي، أغفلت أنّ العدوّ الإسرائيلي هو مجتمع لم يصل يوماً إلى العلمانيّة والعقلانيّة وان نزعة من الأصوليّة واللاعقلانيّة الدينيّة كانت موجودة دوماً في داخل الكيان الغاصب. والكتابات تلك قلّلت من أهميّة دور الدعم الأميركي اللامحدود للمشروع الصهيوني العسكري-العنصري، الذي أثّر في ميزان القوى في الصراع العربي-الإسرائيلي. لو أنّ الاتحاد السوفياتي أغدق بالمساعدات على العرب بشكل نوعي مماثل للمساعدات الأميركيّة لإسرائيل، لما كانت دعوات العقلانيّة في النظر إلى المجتمع العربي ستقلى تجاوباً أو صدى.

كليشيهات استشراقيّة كلاسيكيّة لا تندرج بتاتاً في العلوم الاجتماعيّة
على العكس، إن كتابات النقد الذاتي أفرطت في تحميل العرب—كعرب—مسؤوليّة أمور يتحمّل الغرب المعادي المسؤوليّة عنها. كما أن بعض الشروط والعناصر التي اعتبرها العظم ورفاقه ضروريّة لتحقيق النصر لم تكن بالفعل ضروريّة: كيف مثلاً استطاع ستالين تحقيق النصر على النازيّة؟ وهل كان النظام الإيراني علمانياً في معاركه ضد العراق، وهل حقّق صدّام «نصره» على الكويت بفعل تفوّق نظامه العلمي؟ وما علاقة تنشئة الأطفال بالنصر العسكري؟ والولايات المتحدة تمثّل نموذجاً متخلّفاً من العقلانيّة الثقافيّة، لكن هذا موضوع آخر. واشتهر العظم وبرز في كتاب «نقد الفكر الديني». وكتابه، وإن حاول بصورة بدائيّة تقديم دين بديل لا إيماني، خدش الحساسيّة الدينيّة وأنزل الاستكبار الديني في بلادنا من عليائه، وهذا حسن طبعاً. لكن العظم لم يضع الفكر الديني في سياقه التاريخي وفعل (في ما بعد) ما فعله ملحدو الغرب (مثل سام هرس وكريستوفر كيتشنز) الذين غالطوا الإسلام كدين أكثر بكثير مما غالطوا، مثلاً اليهوديّة والمسيحيّة. ونقد الإسلام (من منظور الفكر الغربي الذي نهل العظم منه) أسهل بكثر من نقد الأديان الأخرى لأن لا عواقب سياسيّة أو مهنيّة لهذا النقد. إن الكتابة عن اليهوديّة لا تزال محفوفة بالمخاطر (في الشرق والغرب) لأن رمي تهمة معاداة السامية (عن حق أو عن غرض سياسي) تكفي للقضاء على المهنة. وأدب «النقد الذاتي» كان فشّة خلق لكن غير مفيدة سياسيّاً. هو حوّر الأنظار عن الأسباب الحقيقيّة لتفوّق العدوّ الإسرائيلي ولنوعيّة التبنيّ الغربي للمشروع الصهيوني، وأدّى إلى لوم العرب لأنفسهم (مهما كان لوم الأنظمة مبرّراً).
لكن العظم الذي كان ماركسيّ المنطلق، تحوّل فجأة في التسعينيات إلى ليبرالي لا علاقة له باليساريّة. والرجل الذي كان يخوّن خصومه الليبراليّين ويتهمهم بالعمالة لإسرائيل وأميركا—أحياناً لمجرّد اللقاء بأستاذ أميركي في جامعة هارفرد (كما فعل في حالة هشام شرابي ووليد الخالدي)، تصالح مع المستشرقين الصهاينة في الغرب. وفي الوقت الذي هزّ إدوار سعيد فيه الوسط الأكاديمي الغربي برمّته (في كتاب «الاستشراق») وزعزع ثقته بنفسه—على قول ماكسيم رودنسون—انبرى العظم لنقد كتاب سعيد والتركيز على أمور تفصيليّة فيه. وسُرّ الصهاينة في الغرب بنقد العظم لسعيد، ودعا مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة برنستون (من المعاقل الأكاديميّة الصهيونيّة في أميركا، الذي كان آنذاك تحت إشراف برنارد لويس) العظم لقضاء وقت زائراً في الجامعة. ثم تلت زيارة العظم لبرنستون زيارة الى مركز ولسون في واشنطن.
تعرّفت إلى العظم عن كثب في تلك السنة، في عام ١٩٩٢-٩٣ الدراسي، عندما حللتُ أستاذا زائراً في جامعة جورجتاون في واشنطن. والعظم لطيف المعشر وقريب من التلاميذ وسهل التآلف، على عكس الكثير من الأكاديميّين العرب الذين يرون في الصفة الأكاديميّة بكويّة أو باشاويّة. وكنتُ قد تعرّفت على العظم في أواخر السبعينيات أثناء دراستي في الجامعة الأميركيّة في بيروت عندما كنت أعدّ دراسة طويلة عن الدور الاستعماري للجامعة لصالح «تجمّع الطلاب الديموقراطيّين» (الصفة الديموقراطيّة في الاسم هي بمعناها الكوري الشمالي لا الغربي السائد). وكان العظم ودوداً جداً ومُشجّعاً وأجاب عن أسئلتي عن تاريخ الجامعة وعن المشاكل التي تعرّض لها في سنوات تدريسه فيها عندما انبرى الأساتذة اللبنانيّون الرجعيّون في الجامعة آنذاك (وبعضهم لا يزال يدرّس فيها مثل سمير خلف) لتحريض الإدارة ضد العظم بسبب يساريّته ودعمه القوي للمقاومة الفلسطينيّة.
وتعرّفت أنا والصديق بسام حدّاد (وكان تلميذي في تلك السنة) أكثر على العظم في سنة ١٩٩٢-٩٣، وكان الأخير يُفوّضني مكانه في الأيام الذي تعذّر فيها حضوره لإلقاء محاضرات (وكان الموضوع غالباً هو العلمانيّة في العالم العربي). لكن إدوار سعيد كان يحذّرني منه، وكان يقول لي بكلام لن أنقله حرصاً على الأسماع أن العظم دُعي إلى أميركا من قبل الصهاينة من أجل...التملّق لهم. ورفض سعيد بحزم محاولتي (بالنيابة عن العظم) للتوسّط بينهما، وتوفي سعيد وهو لم يغفر للعظم فعله ومواقفه.
وعندما عرفتُ العظم عن كثب، فوجئتُ بأنّ اسم عائلته يعني له الكثير، وروى لي أكثر من مرّة عن مبارزة بينه وبين زوجة مصطفى طلاس في الزهو بأصل العائلة، والدم الأزرق والدم الليلكي (حسب وصفه). لكن الفراق بيني وبينه حدث عندما قبلَ أن يخطب أمام الذراع الفكري للوبي الصهيوني (أي«مؤسّسة واشنطن»). وعندما هاتفته مستاءً، قال لي— بالحرف ــــ بصوت ضعيف: «اليهود انتصروا، يا أسعد». لن أنسى هذه العبارة وهي بقيت معي إشارة إلى تحوّل الرجل من داعٍ إلى الكفاح المسلح على طريقة فيتنام إلى مهادِن مع اللوبي الصهيوني. وقلتُ له يومها: أنتَ أبو التخوين ورمي تهم العمالة ضد المثقّفين العرب، والآن تتحدّث أمام اللوبي الإسرائيلي نفسه؟ ماذا كان العظم في الماضي سيقول عنكَ؟ وأنهيتُ المكالمة غاضباً. اتصل بي بعد دقائق وقال لي: سيسرّك أنني اعتذرتُ في اللحظة الأخيرة بداعٍ صحي. قلتُ: لن يسرّني. كان يجب أن تعطي سبباً سياسيّاً لا صحيّاً للاعتذار. لم أره لسنوات إلى أن صادفته في مؤتمر جمعيّة دراسات الشرق الأوسط في بوسطن قبل سنوات. قلتُ له ساخراً: أنتَ أصبحتَ داعية ديموقراطياً؟ أكاد لا أصدّق.
وتحوّل العظم بالفعل إلى ليبرالي—على الطريقة العربيّة السائدة والمبتذلة، التي تسرّ أنظمة الخليج لأسباب واضحة- لا بل إن كتاباته وتصريحاته بعد نشوب الحرب السوريّة تضمنّت، يا للمفارقة، كلاماً طائفيّاً صارخاً. أحب أن أتذكّر العظم قبل أن أعرفه، عندما كنت اقرأه في سنوات الصبا، وعندما كان يمثّل نموذجاً ثوريّاً للمثقّف العربي. لكن تراكم مواقف وخطاب العظم في السنوات الماضية يجعل من هذه المحاولة مستحيلة. يصعب العودة إلى كتاباته القديمة. أجدني أشتم فيها الآن ما لا أستسيغ.