بعد الأحداث الأخيرة، صار السوري موضع شك. في الضاحية، يُراقب بحذر، من دون عدائيّة ظاهرة. قد يكون مناصراً للحراك ضد النظام الصديق للحزب والحركة ... «مندسّاً» في «بلاد الممانعة». في أوساط المواطنين هناك، لم يعد السوريون «حليفاً» طبيعياً. لم يعد جميع السوريين منمّطين سياسياً. حتى وإن تجنب العمال الحديث في السياسة، لن يعفيهم ذلك من «بقعة ضوء» تسلط عليهم سراً من «أهل الضاحية». أحياناً، يصبح الضوء علنياً، ويُسأل عمال عن رأيهم في الأحداث الأخيرة.
هكذا فقد السوريون بيئةً لطالما اعتبرت «صديقة» عموماً. أما في المناطق الأخرى، حيث كانت الغالبية الشعبية تصنفهم «رجال مخابرات مفترضين»، لا ينسحب تعاطف 14 آذار السياسي مع «ثورة السوريين»، على المواطنين العاديين. فقد أتت جريمة قتل ميريام الأشقر في ساحل علما، وفضحت كل شيء. الأزمة السورية، ومقتل ميريام، قد يكونان مؤشرين حقيقيين يقودان إلى حل «سوء الفهم» المستمر بين اللبناني والسوري.

أشرفيّة البداية

في «شارع هوفلان» سبقوا البطريرك. كانوا يصرخون «ما بدنا كعك بلبنان إلا الكعك اللبناني». لا يريدون خبزاً من غير لحمهم ودمهم، ولا بائعين على غير صورتهم. هذه الفئة أعلنت موقفها، في أكثر من مناسبة، قبل أن تغتصب ميريام البريئة من دمها كبراءة المتهمين الذين لم يرتكبوا شيئاً بعد. لكن البطريرك أصدر الحكم سريعاً: «لا تتعاملوا مع أجانب غير مسيحيين».
في الجامعة اليسوعيّة، يعترف طلاب اليوم بأن العامل الأجنبي، والسوري تحديداً، «لا يحمل مدفعاً». يبدو أحد هؤلاء الطلاب كأنه يتنازل كثيراً، حين يعترف بأن العمال «ليسوا مخابرات دائماً». يتأتئ، يجد صعوبة بالاعتراف. صديقته تستغرب «كل هذه الأسئلة». تظن أننا «8 آذار». ننفي قطعاً ونخبرها أن «14 آذار» مع «الثورة السورية»، فتخجل قليلاً، وتبتدع جواباً ... «بالسياسة». على صعيد المواطنة لا فروقات كثيرة بالنسبة إليها. اللبناني متفوق ... «مش كل اللبنانيين، بس طبعاً كل السوريين». جوسلين، هي تلك الطالبة القواتيّة التي تكره كل شيء «غير فرنكوفوني». حتى وإن كانت «في السياسة» مع «سقوط الأسد»، فإنها لا تميّز بين أكراد وبعثيين وعمال وغيرهم. يكاد المقياس أن يكون عرقياً.
ثمة عنصريّة «اقتصادية» أيضاً. فعوضاً عن مساءلة طبقة سياسية صلفة، تفتك بمريديها منذ ثلاثين عاماً، يتحدث لبنانيون عن «أموال تخرج إلى سوريا». لا يتوانى سائق التاكسي، مثلاً، عن إجراء معادلات حسابية شفهية، يستنتج في نهايتها «خروج مليارات الدولارات إلى سوريا». يذلّ السوري في أوساط بعض اللبنانيين حين يوصف بالبخل وقلة الترتيب والجهل. يتصرف اللبنانيون كفاشيين. إحدى السيدات في المتن اتصلت ببائع الغاز «المعلّم غابي» وحذرته: «لا أريد أن يدخل هذا السوري إلى منزلي». كانت تقصد القاصر الذي يساعد العم غابي في نقل القوارير، لأنه «لم يجد لبنانياً واحداً يقبل هذا العمل». لم يفعل القاصر شيئاً، لكن السيدة «باتت تسمع كثيراً وخصوصاً بعد حادثة ميريام». مسكينة ميريام الأشقر، قتلت مظلومة وشرّع البعض لنفسه أن يكون عنصرياً باسمها. لكن هذا المشرّع ليس دائماً سائق تاكسي أو سيدة متنية تقليدية. قد يكون نائباً في البرلمان لا يتوقف عن التذكير بأن 70% من300 ألف شخص استفادوا من مرسوم التجنيس بموجب المرسوم الرئاسي عام 1994 كانوا «سوريين مسلمين». عملياً، لم يستفد أحد سوى طبقة سياسيّة «استثمرت» أصوات هؤلاء في البازار السياسي المحلي.

القوى الأمنية متورطة

في المجتمع كما في السياسة. التاريخ القريب لا يرحم عنصريّة اللبنانيين. فوفقاً لتقرير منظمة العفو الدوليّة، قُتل ما يقرب من عشرين عاملاً سورياً، بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005. عشرون عاملاً؟ في ثقافة الموت اللبنانيّة، لا يبدو الرقم مهولاً. لكنهم عشرون هطلت عليهم أوزار العنصريّة بالباراشوت. اللافت أن مصدراً أمنياً «رفيعاً» يؤكد أن التحقيقات الأوليّة غالباً ما أثبتت عدم ضلوع هؤلاء العمال في أية جرائم أو خلافات. لا يختبئ المسؤول خلف إصبعه، إنما خلف عنصريّة شعبه. والآن، على أبواب 2012، لم ينتصر أحد لهؤلاء الذين أُحرقت مساكنهم المؤقتة على غرار ما كانت تفعله منظمة «كلو كلوكس كلان». بعضهم رُمي من سطوح مبان شاركوا في بنائها، ومنهم من وجد نفسه مطعوناً في الشارع. ثلاثون منزلاً أحرقت بين 27 شباط و23 آذار 2005 فقط. ولعل العنصرية اللبنانيّة فاضت عن الواقع في تلك الفترة، إذ بدا البلد على حافة الانهيار الأخلاقي. هكذا أدار الناجون ظهورهم وفرّوا إلى بلادهم، تاركين كل شيء حتى رواتبهم. كان عددهم يتراوح بين 400 و600 ألف، يشكلون وفقاً لإحصاء أجرته مجلة «كومرس دو ليفان» الفرنسية 80% من اليد العاملة الأجنبيّة في لبنان. طبعاً، تعود الأحداث إلى ما قبل الأزمات وتمتد في جميع المناطق اللبنانية، حتى في تلك التي يوالي أهلها سوريا سياسياً، وصاروا «أكثر حذراً» اليوم. ففي يوم سبت، من ربيع فائت، قُتل شاب أشقر مطعوناً في عنقه. خرج منه دم أحمر كثير وتمدد بثيابه الأنيقة. صودف أن القاتل كان سورياً وأن أصدقاء القتيل هم «أبناء الحي». لم يبق سوري واحد في تحويطة الغدير، المنطقة التي تقبع في عمق الضاحية الجنوبيّة لبيروت، إذ أخذ الأصدقاء بثأرهم من جميع المارة السوريين. وبالاطلاع على التقارير الأمنية الدورية، الصادرة عن غرفة العمليات في قوى الأمن الداخلي، يبدو جلياً أن غالبية الأحداث الأمنية تطاول عمالاً سوريين، يتعرضون للسطو بقوة السلاح، فيما «ينتحل السالبون صفة أمنية»، ما يشير، إلى حدٍ كبير، الى أن العامل السوري «ضعيف» أمام القوى الأمنية الرسمية، ولا يتعامل معها بوصفها مصدر حماية، بل على العكس تماماً. وهذا ما يفسر تصرف «شباب الحي» مع مواطني القاتل، الذي «صودف» أنه كان سورياً. والمشكلة الأكبر، أن وشم العدائية للسوريين بالطابع الشعبوي ليس دقيقاً. الخطورة أنه منظم. فقد اتهمتهم حكومة الرئيس الأسبق فؤاد السنيورة بالوقوف وراء «غزوة الأشرفيّة» الشهيرة، علماً بأنها كانت بتنظيم من مجموعات اسلامية متطرفة، معظمها يدين بالولاء لفريق السنيورة السياسي. بعد التظاهرة، أوقف 340 شخصاً، بطريقة عشوائية، 250 منهم كانوا سوريين. وعاد العمال السوريون ليصبحوا طرائد. يضربون في الورش التي يعملون فيها وتحضر الشرطة لتعتقلهم. وبعدما وضعت الحادثة أوزارها، أوضحت صحيفة «لوريان لو جور» في آذار 2006 كل شيء: «في المحصّلة، تم توقيف 137 شخصاً في هذه القضية، من بينهم 16 سورياً». رغم ذلك، لم يعتذر أحد عن موجة الانتقام. بعض التصريحات لا تقيم وزناً للتداعيات، فالموت هنا يُصرف سهلاً في بازار العنصريّة.



صفير حوراني


في كتابه «آل إده في التاريخ من الأمس الغابر إلى اليوم الحاضر»، يؤكد الأب إميل إده أن «عائلة الجميّل جاءت إلى لبنان من بلدة يحفوفا القريبة من دمشق». وفي بحثٍ للكاتب الفلسطيني، صقر أبو فخر، يكتشف الأخير أن إيلي كرامة من أصول حمصية، أما الناشط القواتي، توفيق الهندي، فهو من حلب. واللافت فوق العادة، أن العنصرية تجاه السوريين تتفشى في محيط هؤلاء الحزبي والاجتماعي. وثمة مفارقة أخرى لافتة، إذ إن البطريرك السابق، نصر الله صفير (الصورة)، ينحدر من عائلة حورانية.