تعاني المديرية العامة للآثار، شأنها شأن كثير من مناصب الفئة الأولى في الإدارة اللبنانية، من شغور موقع المدير العام، وذلك منذ استقالة المدير السابق فردريك الحسيني في آذار 2010. ورغم وجود كفاءات عدة داخل ملاك وزارة الثقافة، اختار الوزير غابي ليون خوض معركة تعيين الأثري المتعاقد الدكتور أسعد سيف في هذا المنصب، بما يخالف الآلية التي أعدّها وزير التنمية الإدارية محمد فنيش للتعيينات في وظائف الفئة الأولى، والتي جرى التوافق عليها في مجلس الوزراء في نيسان ٢٠١٠. وبحسب هذه الآلية، يعدّ مجلس الخدمة المدنية لوائح بموظفي الفئة الثانية في الملاك الإداري العام المؤهلين للترفّع إلى الفئة الأولى. حينها ترأس وزير الثقافة السابق سليم وردة لجنة ضمّته إلى مندوب عن مجلس الخدمة المدنية واختصاصي سمّاه وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية، ودرست ملفات ١٧ مرشحاً، ثم تولى الوزير رفع اسم اقترحه، إضافة إلى اسمين آخرين اختارتهما اللجنة، إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء، لكن عدم التوافق السياسي على سلة متكاملة للتعيينات أبقى هذه الترشيحات خارج التداول.
ومع تعيين ليون وزيراً للثقافة، جرى تجاهل «لائحة وردة». وإذا كان هذا الإجراء مفهوماً من الناحية السياسية، إلا أنه لم يلحق بطلب تأليف لجنة جديدة للإشراف على الترشيحات وفق آلية وزارة التنمية الإدارية، بل خاطب ليون كلاً من رئيس مجلس الخدمة المدنية ووزير التنمية الإدارية، طالباً رأيهما في ترشيح سيف إلى منصب المدير العام للآثار. ورغم جواب الطرفين السلبي، عمل ليون على تسويق ترشيح سيف في الأشهر الثلاثة الماضية، قبل أن يبلغ الأخير ٤٤ عاماً من العمر، علماً بأن القانون يشترط أن يكون المرشح للتعيين في الفئة الأولى دون هذه السن.
فشل ليون في تعيين سيف مديراً عاماً للآثار من خارج الملاك، قابله الوزير بقرار إداري صدر في ٢٨ تشرين الثاني الماضي، أثار استياءً واسعاً في أوساط موظفي المديرية، لكونه جاء على مقاس سيف وتنصيبه مديراً عاماً فعلياً، إذ ينص القرار الذي يحمل الرقم ١١٨ على «إعهاد مهام إلى بعض المتعاقدين لدى المديرية العامة للآثار وإلحاق أثريين متعاقدين في الوحدات في الإدارة المركزية والمناطق». ويعهد القرار إلى ثلاثة متعاقدين المهمات الآتية: الأثرية آنماري مايلا عفيش: الإشراف على المتاحف، الأثري أسعد سيف: الإشراف على الحفريات الأثرية، المهندس خالد الرفاعي: الإشراف على الأبنية الأثرية. كذلك أعاد القرار توزيع عدد من المتعاقدين في الإدارة المركزية والمناطق. ونصّت المادة الرابعة من القرار على أن يُعهد إلى سيف الإشراف على عمل المسؤولين عن الوحدات المذكورة في المادة الأولى من هذا القرار، ويكون مسؤولاً تجاه وزير الثقافة عن الأعمال المنوطة بتلك الوحدات.
ويتبيّن من مضمون القرار أنه ألغى مهمات الإشراف التي عُهد بها إلى الأثري هشام الصايغ على وحدة الممتلكات الأثرية المنقولة والمستودعات وألحقها بوحدة المتاحف، علماً بأن هذه الوحدة لا يمكن إلغاؤها بقرار وزاري خلافاً للنص القانوني الذي قضى بإنشائها، أي القانون رقم 35 تاريخ 30/10/2008. وبمراجعة هذا القانون القاضي بتنظيم وزارة الثقافة، يتبيّن جليّاً بموجبه إلغاء مصلحة المتاحف في المديرية العامة للآثار (المادة 14) وحصر هيكلية هذه المديرية العامة بثلاث مديريات كالآتي: مديرية المنشآت الأثرية والتراث المبني، مديرية الحفريات الأثرية، ومديرية الممتلكات الأثرية المنقولة. وقد قضت المادة 31 من القانون رقم 35/2008 بإلغاء «جميع النصوص المخالفة لأحكام هذا القانون أو غير المتفقة مع مضمونه»، وبذلك يكون هذا القانون قد ألغى مصلحة المتاحف من المديرية العامة للآثار، وأسّس الهيئة العامة للمتاحف بنحو مستقل عن المديرية العامة للآثار، وجعلها تحت وصاية وزير الثقافة بموجب القانون رقم 36 تاريخ 30/10/2008.
وعليه، فإن قرار ليون يعدّ تجاوزاً للقانون، وهو قابل للطعن أمام مجلس شورى الدولة. وعلمت «الأخبار» أن هناك اتجاهاً من الموظفين المعنيين للتقدم بهذا الطعن، ليس فقط لجهة تجاوز الوزير لقانون تنظيم وزارة الثقافة، بل لجهة إعطاء صلاحيات لموظف متعاقد يعمل مشرفاً على الحفريات الأثرية، وتوكيله الإشراف على رؤساء الوحدات الأخرى، أي الإشراف على أعمال المتعاقدين ممّن هم في المركز القانوني ذاته، وعلى موظفين في الملاك من الفئتين الثالثة والرابعة. بمعنى آخر، تفويض المتعاقد سيف صلاحيات المدير العام أو جزءاً منها، فيما هذه الصلاحيات تقع ضمن مهمات الوزير، في ظل عدم تعيين مدير عام أصيل وفقاً للأصول القانونية، ما يُعدّ مخالفة صارخة لقواعد الصلاحية.
وبحسب معلومات «الأخبار»، فإن قرار ليون إلغاء وحدة الممتلكات الأثرية المنقولة والمستودعات التي كان يتولاها الصايغ، جاء بالتزامن مع مجموعة كتب رسمية وجّهها الأخير إلى الوزير تتضمن اتهامات لسيف بارتكاب أخطاء وتجاوزات للقانون. ومن بين هذه المراسلات التقرير رقم 2921 تاريخ 20/6/2011 الذي فصّل ما سمّاه «المخالفات القانونية والإدارية والفنية والمالية والمتعلقة بحفريات بيروت الأثرية»، والتي مثّلت بحسب التقرير «الغطاء لإزالة المواقع الأثرية تحت عنوان التفكيك وإعادة الدمج، مع ما رافق ذلك من تسيُّب في جردات القطع الأثرية المنقولة». كذلك طلب الصايغ تحويل ملف المستودعات العائدة إلى حفريات بيروت إلى النيابة العامة المالية والتفتيش المركزي.
بدوره، ردّ سيف على اتهامات الصايغ من خلال كتاب أرفقه بلوائح أوليّة بمواقع اللقى الأثرية الموجودة في مستودعات المديرية العامة في فرن الشباك، مع تفسيرات بشأن ما جرى توضيبه داخل المستودعات وفي الباحة الخارجية. وأعلن سيف أنه «بصدد إنهاء اللوائح المفصلة حتى يجري تسليمها إلى قسم الممتلكات تباعاً».
وعلمت «الأخبار» أن النيابة العامة المالية تحركت بالفعل، لا في موضوع مستودعات فرن الشباك، بل في شكاوى تقدمت بها ضد سيف رئيسة الديوان في المديرية جمانة نخلة، بعد أن رفض تزويدها بجداول مفصّلة عن أعمال الحفر والتقارير العلمية للحفريات المكتشفة. وطلب النائب العام المالي القاضي علي إبراهيم، بناءً على طلب الرائد نقولا سعد رئيس مكتب مكافحة جرائم السرقات الدولية، الكشف على عقارين في منطقتي الصيفي والأشرفية وبيان الأشغال العامة المنفذة التي حفرها سيف، ومعرفة ما إذا كانت توجد آثار في هذه العقارات، وفي الحالة الإيجابية بيان الجهة التي أقدمت على الحفر، وما إذا كانت على تواصل مع المديرية العامة للآثار، أو حائزة ترخيصاً منها.