يقول جون ديوي (1859-1952) «التجريب من السمات الجوهرية للفنان، وبدونها يصبح أيّ فنان مجرّد أكاديمي، وإن كان الفنان ملزماً بأن يكون مجرّباً، فذلك ليعبّر عن خبرة ذات طابع فردي عميق». انطلاقاً من القاعدة الأثيرة للفيلسوف الأميركي وأوّل من أسس للمدراس التجريبية، يبدو أن الشغل على تقديم دراما تلفزيونية مختلفة عن السائد، أمر ضروري. لا يقف الأمر عند حدود الرغبة في التجديد فقط، بل إنها ضرورة يقتضيها العمل الفنّي والإبداعي بشكل عام.
في هذا الموسم، قدّم المخرج السوري إياد نحّاس مسلسل «الرابوص» (كتابة سعيد الحناوي) في نيّة الاجتهاد الحديث، ونيل شرف المحاولة لصناعة مادة سورية كناية عن دراما الرعب، وقاربت «قناة أبو ظبي» الانتهاء من عرض حلقاته الـ 33. لكن منذ الإعلان عن إسم العمل، قابلته السوشال ميديا بشيء من السخرية، إلى درجة أن أول التعليقات من المتابعين كان عبارة عن تندّر على الاسم، وافترض أنه يقدّم باسم «جمعية الأحلام السعيدة». لم تقلّل تلك الحالة من همّة نحّاس الذي دخل شريكاً في إنتاج العمل إلى جانب شركة «زوى». تمكّن من استكماله، وتسويقه لمحطة مهمة خارج نطاق العرض الرمضاني. لكن النتائج أتت مخيبة أو أنها على الأقل لم تكن على سوية الطموحات، وظلّت النوايا معافية من سلوك فنّي عميق يوازيها في الأهمية. التجريب في «الرابوص» لم يكن سوى ضربة عشوائية ينقصها الأساس الفكري، والضبط الدرامي والبّناء اللازم لحياكة قصّة مسبوكة تتمكّن من جذب المشاهد منذ حلقاته الأولى. لذا، فإنّ كل ذلك إلى جانب إنقطاع التيار الكهربائي المتواصل في دمشق وسوء خدمة الأنترنت، جعلنا بشقّ النفس نتمكّن من متابعة عشرين حلقة من المسلسل الذي يلعب بطولته: أمل عرفة، عبد المنعم عمايري، سلمى المصري، عمار شلق، بيار داغر، محمد حداقي، رنا شميس، ضحى الدبس، نظلي الرواس، ليث المفتي وجيني إسبر. كما يحلّ النجم بسّام كوسا ضيف شرف عليه. يبدو عدد الحلقات كافياً لتقييمه نقدياً، وإن كان لمخرجه رأي آخر يتمنّى متابعة منجزه حتى النهاية. لكن منذ الحلقات التأسيسية للحكاية، يظهر عطب النصّ، في غياب التعريف عن مرجعية الشخصيات، من دون إسناد الحكاية إلى واقعية حياتية مطلقة، أو إلى أسلوب فانتازي خالص. لذا يبدو المقترح عبارة عن هروب من الانتماء بالنسبة إلى مكان وزمان القصة أو نوع الدراما التي يقدّمها. وهذا ما ينسجم معه لاحقاً الشغل البصري، من ناحية الحلول الإخراجية التي تركّز على لوحات سيارات غريبة، ومكان لا يحمل هوية وزمان عائم، وتعامل واضح بالعملة النقدية الأميركية! كأن القصة تدور بعيداً عن مدارك الكرة الأرضية.
المسلسل ينطلق من شخصية عاصي (عبد المنعم عمايري) عندما يلد من أمّ مغلوب على أمرها (ضحى الدبس) وأب سكيّر (بسام كوسا) قبل أوان ولادته، بشعر أبيض ومزاج مضطرب. سرعان ما يجد نفسه مضطراً للسرقة من أجل تقديم الطعام لوالده، ليمتهن لاحقاً مهنة السطو، دون أن يتخلّى عن أخلاق معيّنة. تُصاب أخته (نظلي الروّاس) بصدمة تجعلها مصابة بصعوبة دائمة في النطق، وما يزيد معاناتها وقوعها في غرام صديق أخيها (محمد حداقي)، فيما نلاحق رجل الأعمال (عمار شلق) الذي قتل زوجته (أمل عرفة/الصورة) لشكّه بأنها ما زالت على علاقة بحبيبها السابق (بيار داغر) وطلبه من مساعده إخفاء ابنته. توافيه الزوجة المقتولة في ما بعد بكوابيس مرعبة تصيبه بمرض نفسي. إضافة إلى طالبة علم النفس (كندة حنا) التي تبحث في عالم الجريمة لصياغة حلقة بحث للجامعة، فتقع في غرام الضابط اللقيط. تمرّ حوالي عشر حلقات من دون أن يعرف المشاهد رأسه من قدميه، ولا حتى ماهية الشخصيات أمامه، أو المرجعية الدرامية لها. غالباً سيسأل نفسه: ما الذي جاء بالممثلين اللبنانيين إلى هنا سوى الرغبة بإنجاز خلطة سورية لبنانية تسهّل عملية التسويق، وما كل هذا الذي ابتليت بمشاهدته؟.
مع ذلك، لا ينصرف مخرج العمل عن الإهتمام بتفاصيل هامة حقّق فيها نجاحاً من ناحية الشارات المنفّذة بعناية واضحة والغرافيك الموفّق، وقيمة الصورة الجذابة ولونها، ثم الإنتقال السلس بالزمن، من دون الحاجة إلى إشارة لمشاهد الفلاش باك، مع الشغل على إستعارة ممثل آخر عند العودة لسنوات سابقة، وتركيب صوت الممثل الأصلي على أداء بديله. وأنجز المخرج بضعة مشاهد ملفتة، كمشهد ملاقاة بسام كوسا لخطّابة إبنته، ومشهد الانتحار الذي أدّته النجمة أمل عرفة ببراعة، ثم مشاهد ملاحقتها لزوجها في أغنية لأم كلثوم. يفلت من يدي نحّاس ضبط أداء وشكل بعض ممثليه، كأن يعود الزمن أيام كان عاصي طفلاً بينما نشاهد أخته كما هي، رغم أنه أدار الزمن للوراء أكثر من ثلاثين عاماً. كذلك يبدو الأداء المنفّر لعدد من الدخلاء على مهنة التمثيل سمة ترافق حلقات المسلسل. خلاصة القول، أن الجهود المبذولة، والأموال المصروفة، والرغبة بتقديم مشروع جديد، كان ينقصها نصّ محكم، وتعاطي ناضج، والتجريب وفقاً لبنية متينة ومدروسة.