كأن سقف ما تطمح إليه وزارة الإعلام السورية هو شعورها بالزهوة، عندما تصل إلى مشهد ساخر تصور فيه جميع المنجمين، وعلماء الفلك، وحتى الاختصاصيين في الأبراج، وهم يقفون منهكين يعتريهم العجز لعدم استطاعتهم قراءة طالع الوزارة، وآلية عملها، أو حتى فهم سياستها الاستراتيجية، إن كان هناك خطة تحكمها أصلاً!
لم يعد الأمر يتعلّق مثلاً بإقالة ثلاثة من أفضل مدرائها دفعة واحدة، لأنهم وقعوا على بيان تضامني مع زملائهم الذين كانوا سينقلون مجبرين إلى وزارات أخرى بحجة الفائض العمالي، ولا بالقرار «المعجزة» الذي قضى بمنع التغطية المباشرة وما تتضمنّها من تحقيقات وريبورتاجات وتقارير ميدانية في المناطق السورية الحامية، إلا بعد أخذ الإذن الخطي من الوزارة، وشمل القنوات العربية التي ما زالت مواظبة على عملها في دمشق على رأسها «الميادين» و«المنار»، وحتى بإطلاق محطات وإيقافها بعد فترة قصيرة بسبب فشلها، ولا بمنع مراسلين ميدانيين محترفين من مزاولة عملهم بسبب جمل قالوها على الهواء، أو حقد أحد المسؤولين عليهم. كل تلك الفضائح التي حصلت خلال السنوات الماضية، لم تكن سوى إحماء بسيط للكارثة المهنية المدوية التي انفجرت أمس في مقر التلفزيون السوري وسط ساحة الأمويين. ببساطة، كان بعض الإعلاميين العاملين في المؤسسة الرسمية، والنافذين بعلاقاتهم، يمررون تعليقات عبر الفايسبوك تقول بأن ساعة مدير عام هيئة الإذاعة والتلفزيون قد أزفت وعليه أن يستعد للرحيل. وبالفعل صدر قرار أمس بإقالة عماد سارة مدير عام الإذاعة والتلفزيون وتعيين حبيب سلمان بدلاً منه، لتعمّ حالة من الفرح بين الموظفين. حتى إنّهم بدأوا بالمباركة لبعضهم بسبب ما تناقله هؤلاء العاملون من سياسات وقرارات خاطئة وتحميل العمل الإعلامي أثقالاً خشبية مضافة لما يحمله سابقاً، وأن أهم منجزاته كانت فرض «نظام البصمة» على الموظفين، وإلزامهم بالدوام بطريقة تحد من حريتهم وتحوّلهم إلى موظفين بائسين يحشرون فوق بعضهم في مكاتب رطبة من دون أن ينجزوا شيئاً عليه القيمة، إضافة إلى تفاؤلهم بالمدير الجديد. النشوة المهنية لم تنحصر بمكاتب وممرات المؤسسة الإعلامية الرسمية، بل تعدتها إلى جدران الفايسبوك فراح الموظفون يشمتون بمديرهم المُقال، ويعدون المتابعين بتطور واضح على الجسم الإعلامي والدورة البرامجية، ويهللون للقرار الذي اعتبروه أنه النجاة الأخيرة من تهاوي الإعلام السوري نحو موته. وحدهم أصدقاء سارة المقربون والمستفيدون منه شخصياً، ولا يزيد عددهم على أصابع اليد الواحدة تضامنوا معه بطريقة باردة. لكن «الرجل الحديدي» الذي صعد بسرعة نيزكية متنقلاً من قناة «الدنيا» الخاصة إلى مدير «القناة الإخبارية» ثم مدير عام الإذاعة والتلفزيون، لم يكن بحاجة التعاطف من أحد، رغم نقل أغراضه الشخصية من مكتبه إلى سيارته. فقرار إقالته لم يدم سوى ساعتين فقط. وبضربة سحر، صدر قرار آخر كان بمثابة فضيحة طوى القرار الأول، وأعاد الأمور لما كانت عليه. إذ أعفي سلمان من منصبه الذي لم يدم فيه سوى ساعتين، وعاد سارة إلى مكانه من دون أن ينسى إعادة حاسبه الشخصي وأغراضه من سيارته إلى مكتبه، مطلقاً بذلك صافرة البداية لمباراة هزلية طويلة على مواقع التواصل الإجتماعي. البداية كانت من سؤال الصحافيين السوريين عن الرجل الذي يقف خلف سارة، في إشارة للمشهد التاريخي يوم وقف الراحل عمر سليمان في مصر، وخلفه رجل مجهول، معلناً استقالة الرئيس حسني مبارك. ثم نوّه آخرون بأن الحرب في سوريا لم تغيّر شيئاً سوى أن الفساد صار أكثر وقاحة، بينما انتشرت دعوات لوزير الإعلام محمد رامز ترجمان (الصورة) كي يتقدّم باستقالته احتجاجاً على الاستخفاف بقراراته وطيّها بعد دقائق قليلة. فرد مدير إذاعة «سوريانا» الإعلامي وضاح الخاطر بأن على هؤلاء «شرب كأس ماء وتذكّر أنهم في سوريا، حيث سقف الاحتجاج لأي مسؤول هو طلب الإعفاء ليس إلا». ثم سخر من حال الإعلام السوري معتبراً بأن ما سألته المذيعة رانيا الذنون لعضو مجلس الشعب خالد العبود عن المسافة التي تبعد مدينة الزبداني عن دمشق، هو أهم ما قدمه هذا الإعلام عبر سنوات، معتبراً بأن رمي السهام في غير مكانها لا يفيد.
الخلاصة بأن الحادثة غير المسبوقة، كشعرة قصمت ظهر البعير، وأزاحت الستار عن حجم الفوضى الإدارية الذي تعيشه سوريا هذ الأيّام، متجلياً بأفضل أحواله في الجسم الإعلامي المنهك، الذي لم يعد يتأمل أحد من شفائه!