شغفت الحياة عصام العبدالله (1941 ـ 2017) بأقانيم ثلاثة: الشعر والحرية والحب. الشاعر الذي ولد في أنطلياس عام 1941 من أب عسكري تنقلت خدمته ما بين أنطلياس وصيدا وغيرهما، يقفز اسمه مباشرة الى الواجهة حين نذكر شعراء الجنوب.
انتمى الى تلك الكوكبة من الشعراء التي كان عليها أن تترك شموس آبائها في القرى الجنوبية البعيدة في الستينيات والسبعينيات، لتدخل بيروت كتلك الأنهار التي تصب في البحر، من محمد علي شمس الدين، وشوقي بزيع، وعباس بيضون وجودت فخر الدين وحمزة عبود وشعراء الخيام الثلاثة: محمد وحسن العبدالله وعصام العبدالله وغيرهم. مدينة غاوية، أشبه بالكنز الذي تمتد إليه الأيدي وترسم من أجله الخرائط. كانت بيروت قبلة هؤلاء الشعراء لصنع مدنية مستعصية تكبر بتجاور المتشابهين أكثر من تشابه المختلفين، وهو الشرط الأساسي لصنع مدينة... هي التي وصفها عصام العبدالله بعنقود الضِيع في قصيدته الشهيرة (نقٍّط قلم الله حبر/ صارت السما وتجمّعت/ وتجمعت صارت بحر/ وصل البحر عالشط وتمشى/ ونسم هوا رملي/ وقع الرمل بالمي صارت أرض/ طلع السمك عالبر يتشمس/ كتروا بيوت الناس/ كتروا الشجر/ شايف كأنها بديت الحفلة/ وسميتها بيروت/ طلعت من رموش الزبد كأنها كحلة/ ما في مدينة اسمها بيروت/ بيروت عنقود الضيع).
لم يقف عصام العبدالله كثيراً عند مسألة صياغة قصائده بالمحكية التي يفتقر تاريخنا الثقافي الى تقاليد قراءتها وكتابتها. قصيدة في مقابل الفصحى المؤبدة بجمالها وحضورها ونظامها، تتشكل كل يوم من تجارب الناس، وتتبدى خطورتها أنها تصير كل يوم على شاكلتهم وصيرورتهم، ليستشهد عصام دائماً بالشعرية وقوة تركيب المشهد التي لا تميز بين عامية وفصحى: الشاعر المقلّ في إنتاجه الشعري («قهوة مرة» ١٩٨٢ ــ «سطر النمل»١٩٩٣ ــ «مقام الصوت» ٢٠٠٩) قال مرة عن الشعر إنه حذف وصمت، أكثر منه إضافة وكلاماً. شغفته السياسة مبكراً، متأثراً بأشعار البعثيين مثل سليمان العيسى وهارون هاشم رشيد، ولم يلبث أن بدّل حزبين: حين انهار النص القومي الذي بنيت عليه الأحزاب القومية عام ١٩٦٧، انتقل الى النص الماركسي في «منظمة العمل الشيوعي». رأى فيه مع الكثير من أترابه نزعة مثالية ومحاولة يوتوبية لمساواة غير المتساويَيْن.

وصَف القصيدة المحكية بأنّها خُلقت لتُسمَع في سيارات الأجرة وحوانيت الشعب

الخيبات المتتالية جعلت الشاعر يرتد الى شرط الإنسان الأول، وغاية الغايات وهي الحرية التي يساويها بالوجود نفسه (مرقت حدي/ سألتن عنها/ قالوا هيدي بنت الحرية/ ماتت إمها هي وزغيرة/ وربّتها اللبوة البرية/ رضعت من لبن الحورية/ وصارت أحلى منها شوية) ليحدد دور الشعر والحرية في التخريب: التخريب على الاستبداد الذي «يصب الناس في قوالب كأحجار الباطون»، والتخريب على السلف بإضافة وردة مختلفة الى حديقة الإبداع التي زرعها هذا السلف.
«شاعر عالحطب»، بهذه الطريقة وصف علاقته بالتكنولوجيا الرقمية. وعن تسجيله لقصائد دواوينه على أشرطة كاسيت بمرافقة موسيقى زياد الرحباني، كان يجيب بأن الشعر المحكي خُلق ليسمع في سيارات الأجرة وحوانيت الشعب وأسواقه في نوع من أدب المشافهة ينطلق من الشعب ويعود إليه في مهمة تزيين اللسان اليومي.
كتب عن الخيام، جارة فلسطين، وعن جبل عامل، وأحضر الخيام بدردارتها وحكاياتها الى بيروت، مصرّاً على نقل ساحة الضيعة الى شارع الحمرا الذي هو ساحة بيروت. جابه طولاً وعرضاً وصعوداً ونزولاً من الـ«هورس شو»، الى «الكافيه دو باريه» ومقهى Lina's و«عليا»، وصولاً الى «الروضة» عند خاصرة البحر. «أنا رئيس بلدية الحرية»، يقول عصام العبدالله لندمائه في المقاهي الكثيرة، «انتخبني كل الجالسين هنا برضاهم ودونما ورقة، وشارع الحمرا هو هذا الهجوم باتجاه الغرب، الغرب البحري. أنا أعرف هذا الشارع قبل أن يصير شارع الحمرا، على أيام طفولتي كان فيه صبار وتين، وكنا نجلس هناك. أجلس في المقهى أحرس أمكنتي». من ذات المقهى، كانت تمر كل الأشياء وكل الثورات تحت نظر «أبي حازم» فيعالجها بنكتته الحاضرة، والسخرية التي تلازم الشعراء في معالجة الوجود بأسره ابتداءً من أنفسهم. حين عيّرته كنّته مرة بضرورة ترك المقهى والسفر لرؤية الدنيا، أجابها عصام بأنه سافر الى أبعد ما يتصوره خيالها. يكفي أن يجلس على «الزاوية الجوانية» التي يظنها الناس مجرد مظهر داخلي، لتبدأ رحلة الشعر الداخلية، وهي شرط أول وأساسي لكل شاعر. كتب عصام العبدالله للمقاومة: «ما بعرفن/ ما شايفن / لفّوا وجوههم بالقهر/ خبوا سلاحهم بالوعر/ خبوا أساميهم/ ما في حدا بيشوفهم/ إلا إذا ماتوا/ وتعلقوا متل التحف/ متل القمر». غريب هذا الموت كيف يتطاول على قلب رقيق كقلب عصام العبدالله الذي كتب مرة هذه الكلمات: «بحبّك متل نزل الشتي عليّي/ وما عاد فيّي لمّ/ بحبّك متل ولد فزع/ وفتَّش عريحة إم».

* يصلّى على جثمانه بعد صلاة ظهر اليوم الأربعاء في جبانة «روضة الشهيدين» في الغبيري. تقبل التعازي قبل الدفن في حسينية «روضة الشهيدين»، وبعد الدفن في قاعة الإمام موسى الصدر في «روضة الشهيدين»، ويوم الخميس في «فندق البريستول» من الساعة العاشرة لغاية 1:30 ظهراً، ومن 2:30 بعد الظهر حتى الثامنة مساء. تقام ذكرى أسبوع له يوم السبت في 23 كانون الأول (ديسمبر) عند الساعة الحادية عشرة لغاية 12 ظهراً في حسينية بلدته الخيام




جبل عامل

كان في جبل اسمو جبل عامل/ راجع عبيتو من الشغل تعبان/ وكان الوقت قبل العصر بشوي/ كتفو الشمال ارتاح على الجولان/ كتفو اليمين ارتاح على نيسان/ كفو الشمال بيفتحها بتلمع/ نحاس القمح غطى سهل حوران/ اسمو جبل عامل/ صدرو خزانة بقلبها جهاز العروس/ فيها عنب في تين في زيت/عم يرشح من عيون السنين/ جهاز العرس للبنت يلي اسمها زينب/ وسامع حدا بيقول انها فلسطين/ اسمو جبل عامل/ عيونو بُرَك/ والاولاد بدن يلعبو...