يعاني القطاع المصرفي سيولة فائضة منذ عام 2009، وقد استمرّ الوضع على ما هو عليه في عام 2010، مع استمرار تدفّق الودائع على المصارف المحلية بمعدّل شهري بلغ 958 مليون دولار، علماً بأن هذا المعدل أدنى من المسجّل في عام 2009، والبالغ نحو 1.5 مليار دولار. ويتوقّع المصرفيون أن يستمرّ التدفّق في عام 2011، لكن بمعدّل أدنى، ما قد يدفع السلطة النقدية إلى زيادة معدلات الفائدة للحفاظ على النمط السائد، وهو أمر سيؤدي، في حال حدوثه، إلى إبقاء البلاد في الدوامة نفسها، أي تركيز الجهود على جلب الودائع، ثم امتصاصها عبر الأدوات النقدية والمالية، بما في ذلك الدين العام، وبالتالي إبقاء اللبنانيين المقيمين أسرى هذه الدوّامة من دون أن يكون لهم أي منافع حقيقية في استمرارها.فقد ارتفعت الميزانية المجمّعة للمصارف في نهاية عام 2010 بقيمة 13.67 ملياراً، أو ما نسبته 11.8%، ليصبح مجموعها نحو 128.92 مليار دولار، مقارنة مع 115.25 مليار دولار في نهاية عام 2009. وتُظهر تفاصيل هذه الميزانية حجم الأزمة في القطاع، وكيفية تعامل السلطة النقدية معها، لمصلحة تعزيز أرباح المصارف على حساب الدولة والمجتمع. ففيما كانت الودائع مستمرة بالتدفق، كانت توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان تزداد أيضاً، ودأبت وزارة المال على امتصاص السيولة عبر سندات الخزينة.
وزادت ودائع القطاع الخاص (المقيم وغير المقيم) إلى 107.2 مليارات دولار في نهاية عام 2010 مقارنة مع 95.76 مليار دولار في نهاية 2009، أي بزيادة قيمتها 11.5 مليار دولار. في المقابل، ارتفعت قيمة ودائع المصارف لدى مصرف لبنان، في نهاية 2010، إلى 40.3 مليار دولار مقارنة مع 35.3 مليار دولار في نهاية 2009، أي بزيادة قيمتها 5 مليارات دولار، وما نسبته 14%.
وعلى الرغم من أن الميزانية المجمّعة تُظهر استقراراً خادعاً في توظيفات المصارف في سندات الخزينة، التي بلغت نحو 29.31 مليار دولار، مقارنة مع 29 مليار دولار في نهاية 2009، أي بزيادة نسبتها 0.8% فقط، يؤكد مصرفيون متابعون أن مصرف لبنان قايض جزءاً من محفظة المصارف من سندات الخزينة بشهادات إيداع فائدتها أعلى، وذلك في إطار توزيع كلفة التعقيم بين الموازنة العامة وموازنة مصرف لبنان، ولا سيما أن وزارة المال لا تزال تحتفظ بودائع لدى مصرف لبنان ناتجة من اكتتابات تتجاوز حاجات الدولة التمويلية.
وقد ارتفعت التسليفات للقطاع الخاص في عام 2010 بقيمة 6.5 مليارات دولار، (منها 2.35 مليار بالليرة اللبنانية)، لترتفع محفظة المصارف من هذه التسليفات إلى 30.3 مليار دولار مقارنة مع 24.25 ملياراً في نهاية عام 2009... إلا أن جزءاً مهماً من هذه التسليفات ذهب الى تمويل شراء المساكن، مما ساهم في رفع أسعار العقارات بوتيرة لم تعد قابلة للاستمرار في ظل ثبات مستوى مداخيل الأسر المقيمة، وتراجع قوتها الشرائية في حالات كثيرة.
يعود السبب الأساسي لاستمرار تدفّق الودائع في عام 2010، إلى ارتفاع معدّلات الفوائد على الليرة، علماً بأن معدلات الفائدة العالمية (على الدولار) لم تزد على نصف في المئة منذ نهاية عام 2008 إلى اليوم. ففي نهاية تشرين الثاني 2010 بلغ معدّل الفائدة المثقّلة على الودائع بالليرة 5.7% مقارنة مع 6.81% في نهاية 2009، أما معدّل الفائدة المثقّلة على الودائع بالدولار فقد بلغ 2.80% في نهاية تشرين الثاني 2010 مقارنة مع 3.10% في نهاية 2009.
إزاء هذا الواقع، بدأت المصارف تعاني اختناقاً سببه تدفق السيولة بمعدلات شهرية كبيرة، وما كان يوصف بأنه أمر إيجابي، تحوّل بسرعة إلى وضع سلبي. فتدخّل مصرف لبنان ووزارة المال لإنجاز عملية تُعرف بـ«تعقيم السيولة»، أي أن يتحمّلا الكلفة عن المصارف بذريعة أن الاختناق سيُحدث اختلالاً في المورد الوحيد لتمويل الدين العام. وبدأت عملية الامتصاص، فأصدرت وزارة المال سندات خزينة بالليرة تفوق حاجة الدولة بما يوازي أكثر من 5.8 مليارات دولار، فيما أصدر مصرف لبنان شهادات إيداع بالليرة بلغت في نهاية تشرين الثاني 2010 ما قيمته 27924 مليار ليرة، أي ما يوازي 18.5 مليار دولار، وبفائدة مثقلة تبلغ 9.08% مقارنة مع 9.63% في نهاية 2009.
من أبرز نتائج هذه العملية ارتفاع نسبة تركّز الدين العام بيد المصارف، فقد باتت سندات الخزينة المحمولة لديها توازي أكثر من 56% من الدين العام المعترف به رسمياً، فيما أصبحت المصارف مكشوفة أكثر على مصرف لبنان الذي أصبح يحمل في نهاية 2010 نحو 40.3 مليار دولار من الودائع المصرفية، فضلاً عن ارتفاع محفظة شهادات الإيداع... والمفارقة أن عملية التعقيم، التي نفّذها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ووزيرة المال ريا الحسن، لم تكن لإنقاذ المصارف فحسب، بل زادت ربحيتها أيضاً «من كيس الخزينة، أي كيس المواطن»، إذ استفادت المصارف كثيراً من الفارق بين الفائدة على الودائع بالليرة (الكلفة على المصارف)، والفائدة على سندات الخزينة وشهادات الإيداع (العائد لتوظيفات المصارف لدى الدولة)، وهو يراوح بين 2.5 نقطة مئوية و3.2 نقطة مئوية. فعملية التعقيم تحوّلت الى صفقة مربحة جداً بدلاً من أن تكون حافزاً لتصحيح الأوضاع النقدية والمالية، بدليل أن الفائدة المثقلة على سندات الخزينة بلغت 7.86% في نهاية تشرين الثاني 2010 فيما كانت 8.66% في نهاية 2009 (معدلها 8.2%)، أما الفائدة على شهادات الإيداع فبلغت 9.08%، فيما راوحت الفائدة التي تدفعها المصارف للمودعين بين 5.7% في نهاية تشرين الثاني 2010 و6.81% في نهاية 2009 (معدّلها 6.2%).
وعلى الرغم من انخفاض معدلات الفوائد ببطء شديد، فإن مجمل هذه السياسة المتبعة أدّت إلى ارتفاع الدين المحرّر بالليرة اللبنانية إلى 37868 مليار ليرة، في نهاية تشرين الثاني 2010 مقارنة مع 36622 مليار ليرة في نهاية عام 2009، أي بزيادة قيمتها 1246 مليار ليرة، أو ما نسبته 3.4%.
هذا هو النموذج النقدي الذي سار عليه لبنان طيلة عقدين، فهل يستمر مع الحكومة الجديدة؟