أنا مناصر، بل ناشط في 14 آذار. بعد اغتيال رفيق الحريري، شعرت بغضب شديد، اتّهمت سوريا والحلفاء في لبنان، من أحزاب وأجهزة أمن وإعلام بالضلوع في الجريمة. ربما ما زلت على اقتناع بذلك، ولا فرق عندي، أكان حزب الله أم حزب البعث هو الفاعل. لكن، ما أعرفه هو أنّ سوريا وإيران قتلتا رفيق الحريري، وأرادتا السيطرة على لبنان، وإذلال أهله وشعبه وإخضاع الناس لحكم الضبّاط والقتلة. نزلت إلى الشوارع والساحات. سهرت وشاركت في تعبئة الناس، إخوتي وأهلي والجيران والزملاء في العمل وأصدقائي الذين سافروا للعمل في الخارج. أعدت حفظ النشيد الوطني، واحتفظت في خزانتي وعلى مكتبي وفي غرفة الجلوس كما الشرفة، بعلم لبنان بأحجام مختلفة. كنت أنتظر بفارغ الصبر مقابلات 14 آذار وإعلاميّيها، وأسهر حتى الفجر لأفرغ من قراءة كل صحفها ومواقعها الإلكترونية، وأمرّ سريعاً على إعلام الأعداء، العملاء الحاقدين، الأدوات المأجورة. وعند الدعوة إلى حشد أو تظاهرة، كنت أصل قبل الفجر واقفاً منتظراً في الشارع. لا ينقصني تشجيع أو حماسة.
بعد سقوط حكومة عمر كرامي، قلت إنّ للثورة أثماناً، لكنْ لها تجار أيضاً. وبعد خروج الجيش السوري، قلت إنّ المعركة تستأهل التضحيات. وعند توقيف الضبّاط الأربعة، وعزل إميل لحود، ومحاصرة حزب الله، شعرت بأن هناك قدرة على تحقيق الكثير. لم أتضايق من عودة العماد ميشال عون أو خروج سمير جعجع من السجن. وصرت أنظر إلى كل مكوّنات 14 آذار على أنّها جزء واحد، لا بأس عندي في لقاء أي منهم، في زيارة أي بيت، وفي استضافتهم في بيتي، شخصياً أو على هيئة صور وأسماء.
مرّ العام الأوّل، وجاءت تحرّكات العام الثاني، وبقيت على حماستي. وكنت مستعدّاً لخسارة وظيفتي مقابل تمسّكي برأيي وعدم كتمانه في صدري. وكنت أنتظر كل تحرك لأكون في المقدّمة، تثبيتاً للإنجازات. وفي كل استحقاق انتخابي، نيابي أو بلدي أو نقابي، كنت أتقدّم الصفوف، ناخباً، مقترعاً، أو متطوّعاً في ماكينة انتخابية. لم أوفَّق يوماً في الوجوه والأسماء التي اختارها القادة. كنت على ثقة بأنه لا مجال بعد اليوم للرياء، وللانتهازية، ومن يدخل صفّنا فعليه أن يحمل دمه على كفيه.
وصل سعد الحريري إلى رئاسة الحكومة. شعرت بأنّ الأمر يقترب من لحظة الإنجاز الكبير، وأنّنا نسير باتجاه بناء الدولة، وترسيخ علاقات ندّية مع سوريا، وحصر سلاح حزب اللّه تحت إمرة الجيش والدولة، وإلغاء كل تمرّد على الدولة، لبنانياً كان أو فلسطينياً. وكنت على ثقة بأن العدالة تقترب من التحقّق، من خلال اتهام المشتبه فيهم واعتقالهم وسوقهم إلى المحكمة لنيل القصاص. وكنت أصدّق فرنسا وأميركا، وأشعر بأنّ جيفري فيلتمان أقرب إلى عقلي وقلبي من كثيرين من أبناء بلدي المضلَّلين.
ثمّ فجأة...
لا أعرف ما الذي حصل. بدأت أفقد حماستي في الكلام مع الناس، وصرت أتردّد في المشاركة في أنشطة، ورحْتُ أدقّق في كلام هذا وذاك. وصارت الأمور تجري من دون شرح أو فهم:
ـــــ ذهب سعد الحريري إلى دمشق، وسامحها، واعتذر عن اتهامها، ثم قال إنّ حزب الله هو المتورّط، ومع ذلك، دخل معه في حكومة شرّعت له سلاحه مرّة أخرى. وصار ميشال عون قابضاً على وزارات أساسية. وكان علينا مشاركة آخرين من غير صفّنا في الانتخابات ...
ـــــ ثم خرج وليد جنبلاط من الصف. أنا شخصيّاً لم أخَفْ في 7 أيّار. كنت مستعدّاً للمواجهة، لكنّ الأهل والأقرباء أشعروني بعدم جدوى الأمر. ثم سحبت القيادة يدها من المواجهة المباشرة، وقبلتْ تسوية أنتجت حكومة شراكة مع الأعداء ـــــ الخصوم والقتلة.
ـــــ ثم صار علينا تنظيم العلاقة مع سوريا بطريقة تذكّرني بالماضي الأليم. رستم غزالة صار صديقاً لقادتنا. والضباط الأربعة أطلق سراحهم دون اتهام أو حتى اشتباه، وتبيّن أن بعض الشهود كانوا على علاقة بقادة من صفّنا، وهم الذين قال عنهم سعد الحريري إنهم ضلّلوا التحقيق.
ـــــ ثم زار سعد الحريري سوريا مجدّداً، ودخل في حوار يتعلق بتفاصيل لبنانيّة، كأنّ 14 آذار لم تكُن، وكأنّ رفيق الحريري لم يقتل.
ـــــ ثم زار إيران. صحيح أنه لم يبتسم هناك، لكنه بحث في مشاريع تعاون مع الإمبراطورية الفارسية التي تريد تغيير وجه بلادنا العربية.
ـــــ بعد ذلك، دخلنا في مفاوضات برعاية سوريا والسعودية. وقَبِلنا بمسوّدة ورقة، تجعل المحكمة الدولية غير فاعلة وتعطّلها بعد أن تجمّدها، ثم وافقنا على حكومة جديدة، يكون لنا فيها مثل خصومنا من حصص ونفوذ...
ـــــ ثم صار سعد الحريري فجأة خارج الحكم. وصارت الأغلبية النيابية في مكان آخر. ويريد الفريق المقابل تأليف حكومة جديدة، تضمّ بعض من كانوا حلفاء لنا في الانتخابات، في بيروت والجبل والشمال والبقاع.
ـــــ صار ميشال عون من جديد الممثّل الأبرز للمسيحيين داخل مؤسسات الدولة. لم تعد فرنسا كما كانت، وفي السعودية أكثر من رأي. وفي الولايات المتحدة، هناك رجل اسمه فيلتمان يهتمّ لأمرنا. أما بقية العالم العربي، فقد بدأ يتغير. حسني مبارك طار ومعه زين العابدين بن علي، وقريباً معمّر القذافي وعلي عبد الله صالح. وثمة مخاوف من اضطرابات تعمّ دول الخليج كلها، بينما محمود عباس لا يفعل شيئاً سوى شرب القهوة. حتى إسرائيل، تبدو حائرة في أمرها، وأميركا مشغولة في ترميم أوضاعها في العراق وأفغانستان، ولا تعرف أين تركّز اهتماماتها وأين نحن في سلّم أولوياتها.
ـــــ ثمّ يبدو أهل طرابلس كأنهم يتكبّرون على أبناء عكار، يرفضون نزولهم إلى شوارع المدينة، وأهل البقاع الأوسط عادوا يرتّبون أمورهم مع سوريا، كما مع حلفائها في لبنان. بينما يبدو الجيش اللبناني مستعدّاً لضرب القوات اللبنانية، وسط تراجع في معنويات قوى الأمن الداخلي، ومسارعة ضبّاط من صفّنا الى ترتيب أمورهم مع السلطة الجديدة. حتّى رجال المال والأعمال، من رياض سلامة إلى التجّار الكبار، يريدون أيضاً ترتيب مصالحهم، ولا يُظهرون استعداداً لخسارة دولار واحد لحفظ ثورة الأرز.
ـــــ فجأة، تظهر الأزمة المالية في صفوفنا. تتوقف وسائل الإعلام الخاصة بنا عن الثورة. إخبارية المستقبل في طريقها إلى الإقفال، وجريدة «النهار» تبحث عن تمويل يجعلها تستعيد بعض صدقيّتها، وصحفنا لا تُقرأ، ومواقعنا الإلكترونيّة يتراجع نفوذها يوماً بعد يوم. أمّا الخدمات الاجتماعية للفقراء، من أنصارنا، فتراجعت في كل لبنان. وتظهر إلى السطح بوادر أزمة في الشركات العملاقة لآل الحريري، مقابل أزمة ديون كبيرة. ويرفع سمير جعجع الصوت عالياً لحاجته إلى دعم مالي ومعنوي. أما أركان 14 آذار الآخرون، فيفاوضون على حصص في السلطة الجديدة. والأمانة العامة فقدت صلاحيّتها وصارت خارج الخدمة. ودار الفتوى تعاني صعوبة بسبب ضعف قيادتها، بينما طلب الفاتيكان من البطريرك نصر الله صفير الاستقالة، وصارت مشيخة عقل الدروز في المقلب الآخر.
ـــــ لم نعد نقدر على حشد الناس مرّتين. ألغينا احتفال 14 شباط، وركّزنا على 14 آذار. ولخشيتنا من نقص في المشاركة يوم العمل، قدّمنا الموعد إلى الأحد لعلّه يوفّر لنا آلافاً يشاركون من دون حجة غياب.
اليوم، أُرجع ظهري إلى الخلف، وأُغمض عينيّ، وأحلم، ولا أعرف إذا كنت مستعداً للنزول يوم الأحد المقبل إلى ساحة الشهداء. لا أعرف ما الذي سأقوله هناك. ولست واثقاً من أنّ الأحد سيكون مختلفاً عن الأيّام السابقة، ولا أعرف كيف سيكون صباحي في اليوم التالي...