ساد في الفترة الماضية اعتقاد راسخ بأن الحسابات المالية النهائية للدولة تنطوي على «فضائح» بالجملة، وتعتريها نواقص واخطاء ومخالفات دستورية وقانونية وادارية وافعال جرمية لا تعدّ ولا تحصى... وتم تقديم الكثير من القرائن والادلة في هذا المجال. الا ان هذا الاعتقاد كان يُواجه دائما بردود «دفاعية» تحاول ان تضعه في خانة «الاتهامات السياسية» و«الافعال الكيدية» و«الشائعات» التي تستهدف فريقاً معيّناَ تولّى مسؤولية ادارة المال العام لفترة طويلة من الزمن امتدت من العام 1993 حتى اليوم (ما عدا في حكومات قليلة، لا سيما في حكومة الرئيس سليم الحص بين عامي 1998 و2000 وفي حكومة الرئيس نجيب ميقاتي الحالية)...
ومواجهة هذا الاعتقاد لم تقتصر على الفريق المتهم وحده، بل شاركت فيه قوى سياسية عدّة ما انفكت تحاول ان تؤمن «براءة ذمّة» تعفي من المساءلة السياسية (البرلمانية) والقضائية، وتطوي الصفحة على قاعدة «عفا الله عما مضى»، وهذا ما ينطبق على مكوّنات الحكومة الحالية، التي وافقت اخيراً على احالة الحسابات المالية للاعوام من 2006 الى 2010 الى المجلس النيابي للتصديق عليها، على الرغم من ان كتاب وزير المال محمد الصفدي رقم 1132/ص1 تاريخ 23 آذار 2012، الذي اُرفق مع هذه الحسابات، كان صريحاً جداً في تشكيكه بصحّة هذه الحسابات وصدقيتها، اذ ابلغ مجلس الوزراء بأنها بنيت على الواقع الحالي «الذي لنا عليه ملاحظات»، وهي تسبق «عملية التدقيق التي تقوم بها وزارة المال للفترة الممتدة من عام 1993 ولغاية عام 2010».


السباق بين التدقيق واللفلفة

في الواقع، يحصل حالياً ما يشبه السباق بين عملية التدقيق في الحسابات الجارية في وزارة المال وبين محاولات «ابراء ذمّة» الحكومات السابقة، فكلما تقدّم العمل في العملية الاولى استعرت المحاولات الرامية الى اصدار قوانين قطع الحسابات، اذ ليس وليد الصدفة ان تتزامن خطوة مجلس الوزراء الاخيرة مع انجاز وزارة المال للمرحلة الاولى من عملية التدقيق بحسابات الهبات والتبرعات النقدية التي حصلت عليها الدولة في الفترة من عام 2000 الى عام 2010، (وهي تعكف على انجاز المرحلة الثانية قريبا، وتشمل الاعوام من 1993 الى 1999)، فنتائج عملية التدقيق المنجزة اكّدت صحّة «الاعتقاد» وقدّمت الاثباتات له، اذ تبيّن ان هناك هبات عالقة لعدم صدور مراسيم خاصة بها، تقدّر قيمتها بنحو 273 مليار ليرة، وهناك هبات صدرت مراسيمها ولكنها لم تسجّل في القيود المحاسبية، ما عدا 22 مرسوماً من اصل 273 مرسوماً صادراً بين عامي 2000 و2010، ليخلص التقرير الذي اعدّه فريق التدقيق الى ان «الخطورة تكمن في ان قطوعات الحسابات الصادرة، او التي ستصدر، لم ولن تلحظ قيمة الهبات الفعلية من جهة وكيفية التصرف بمبالغ هذه الهبات من جهة اخرى».
يُعدّ هذا التقرير الاول من نوعه في سياق عملية التدقيق الجارية، الا ان قصّته تبدأ منذ وقت طويل، وتحديدا منذ عام 2008، عندما شكّل مدير المالية العام الان بيفاني فريقا للتدقيق ببالحسابات، فتمت عرقلته من قبل مستشاري رئيس الحكومة فؤاد السنيورة الذين كانوا ما زالوا يديرون الوزارة فعليا، فعمدوا الى قطع امكانية الولوج الى الانظمة المحاسبية عليه لمنعه من استكمال عمله، وهو ما تكشف عنه مراسلات رئيس الفريق في حينه. ولم تنجح المحاولات لمباشرة عملية التدقيق الا مع تسلّم الوزير محمد الصفدي مهامه في وزارة المال، فقدّم مساندته لهذه العملية، لتنطلق فرق التدقيق بعملها مجددا باشراف بيفاني، اذ توزّعت هذه الفرق على قطاعات مختلفة تمثّل فروع الحسابات المطلوب التدقيق بها، ونجحت حتى الان بتزويد ديوان المحاسبة بالعديد من التصحيحات وابلاغه بالكثير من المخالفات، كما نجح الفريق الخاص بالتدقيق بحسابات الهبات والتبرعات النقدية بانجاز المرحلة الاولى من عمله، كخطوة تدل على تقدّم العمل، اذ حصلت «الاخبار» على نسخة من تقرير هذا الفريق الذي تسلّمه اخيرا ديوان المحاسبة. وبحسب تقرير الفريق، الذي يضم كلاً من ايلي هاشم ورنا دكروب وغريتا مهنا، فان دائرة ادارة السيولة النقدية قامت بعملية جرد مراسيم الهبات المقبولة من مجلس الوزراء معتمدة بذلك على الجريدة الرسمية وذلك من العام 2000 ولغاية العام 2010، (علماً ان العمل جارٍ حالياً على جرد المراسيم الصادرة منذ العام 1993 ولغاية العام 1999)، وقد تم اللجوء الى هذه الالية بعدما تم الطلب من مجلس الوزراء تزويد وزارة المال بالمراسيم والقرارات الصادرة والمتعلقة بقبول هبات، وذلك بموجب الكتاب رقم 627/ص1 تاريخ 21/2/2012، وذلك كنوع من التدقيق لتفادي الاخطاء البشرية، «غير ان اللائحة التي وردتنا غير كاملة وبالتالي لا يمكن الاعتداد بها»، بحسب ما ورد في التقرير المذكور.


هبات بلا مراسيم

قام الفريق بمقارنة المراسيم الصادرة عن مجلس الوزراء مع القيود المحاسبية المسجلة. وتوصّل الى النتائج التالية:
- وجود مشاكل واخطاء محاسبية تعاني منها حسابات الهبات والتبرعات: اذ هناك نوعان من المشاكل التي تعترض حسن تسجيل الهبات والتبرعات في القيود المحاسبية:
1- هبات عالقة في القيود المؤقتة لعدم صدور مراسيم خاصة بها: اذ تبيّن ان هناك هبات دخلت حسابات الخزينة في مصرف لبنان، الا انه جرى تسجيلها في الحسابات المؤقتة (حسابات الفئة 4) وذلك بسبب عدم صدور مراسيم قبولها من مجلس الوزراء. وتبلغ قيمة هذه الهبات العالقة في الحساب 48108 مبلغاً قدره 256.412.775.257 ليرة، واذا اضيفت الهبة العمانية العالقة في الحساب 48101 (قيد مؤقت للواردات) يصبح اجمالي الهبات العالقة في القيود المؤقتة 272.995.275.257 ل.ل. وتكمن خطورة هذا الخطأ الاداري/ المحاسبي في ان قطوعات الحسابات الصادرة، او التي ستصدر، لم ولن تلحظ قيمة الهبات الفعلية من جهة وكيفية التصرف بمبالغ هذه الهبات. من جهة اخرى.
2- هبات صدرت مراسيمها غير انها لم تسجل في القيود المحاسبية: اذ يتبين ان ما تم تسجيله من الهبات الصادر فيها مراسيم، سواء في حسابات الفئة 7 (حسابات الايرادات) او في حسابات الفئة 4 (القيود المؤقتة او الامانات)، لا يمثل سوى 8% من مجمل عدد هذه الهبات، فقد صدر بين عامي 2000 و2010 نحو 273 مرسوماً بقبول هبات نقدية. اما ما تم تسجيله فهو 22 مرسوماً فقط. (انظر الى الجدول المرفق الذي يرصد قيمة الهبات غير المسجلة خلال الاعوام 2000/2010).

فوضى وتخبّط

ويشرح التقرير الاسباب التي يمكن ان تفسر عدم تسجيل الهبات في القيود المحاسبية، فمن خلال الاطلاع على مراسيم الهبات، وما نصت عليه لجهة قيودها المحاسبية (اين تقيد في حسابات الواردات والنفقات) او المالية (هل يفتح حساب خاص بها ام تدخل مباشرة الى حساب الخزينة) او الادارية (من هي الجهة التي تتولى تحريك الحسابات)، يمكن ملاحظة الحالات الثلاث التالية:
1- فتح حسابات خاصة للهبات الممنوحة للادارات العامة (الوزارات): فقد نصت بعض المراسيم على فتح حسابات بقيمة الهبة في مصرف لبنان على ان تدير اموال الهبة الوزارة المعنية. وفي ظل عدم وجود حساب موحد للخزينة، تناثرت مبالغ هذه الهبات في عدة حسابات لا تملك وزارة المال حق معرفة المبالغ التي حولت اليها او المبالغ التي صرفت منها. ما يمكن ان يفسر بالتالي عدم تسجيل هذه الفئة من الهبات. كذلك تجدر الاشارة الى ان بعض المراسيم نصت على ان تقيّد الهبة في قسم الواردات والنفقات من الموازنة، وبالرغم من ذلك تم فتح حساب خاص بها.
2- فتح حسابات خاصة للهبات الممنوحة لمؤسسات عامة (غالباً ما تكون لصالح مجلس الانماء والاعمار)، وهنا يجب التمييز بين حالتين:
الاولى- ان يكون الهدف من الهبة تمكين المؤسسة العامة من اقتناء اصول او تسديد نفقات خاصة بها، وهنا لا يقتضي تسجيل هذا النوع من الهبات، اذ إن وزارة المال تقوم باعداد محاسبة الادارة المركزية central government وليس محاسبة القطاع العام public sector. لكن تقضي الاشارة الى ان هذا النوع من الهبات نادر جداً.
والثانية - ان تقوم المؤسسة العامة بتنفيذ الهبة لصالح احدى الادارات العامة، وهنا تكون المؤسسة العامة مجرد وسيط (كأن يقوم مجلس الانماء والاعمار بتنفيذ هبة تقضي ببناء مدرسة لصالح وزارة التربية)، وبالتالي يقتضي تسجيل هذا النوع من الهبات بعد ان تقوم المؤسسة العامة بايداع وزارة المال حساباً بكيفية التصرف بالهبة.
3- قيام الجهة المانحة بتنفيذ مضمون الهبة بنفسها، وفي هذه الحالة، لا اموال نقدية تكون قد دخلت الى حساب اي ادارة او مؤسسة عامة. لكن هذا لا يعني انه لا يقتضي تسجيل هذه الهبات.
ويمكن الاستنتاج ان الهبات التي جرى تسجيلها محاسبياً هي فقط الهبات التي دخلت الى حسابات الخزينة لدى مصرف لبنان (حسابات الـ 36) دون الهبات التي فتحت لها حسابات خاصة في مصرف لبنان او تلك التي قام بتنفيذ مضمونها مجلس الانماء والاعمار او الجهة المانحة.

هبات مجهولة

ويدلي فريق التدقيق بحسابات الهبات بملاحظات عامة اخرى اهمها:
- تم اكتشاف 3 عمليات لم يتمكن الفريق من معرفة الى اي هبات تعود، اذ إن الشرح كان غامضاً، ولم يتبين الى اي مراسيم تعود من جهة، ولم تتمكن مديريتا الخزينة والمحاسبة العامة من تزويد الفريق بالمستندات من جهة اخرى. الاولى (رقم 8688) بقيمة 184.432.373 ل.ل. سجلت على الحساب 79502 (هبات جارية من منظمات دولية) سنة 2001، والعملية الثانية (رقم 2780) بقيمة 96.452.000 ل.ل. سجلت على الحساب 79409 (تبرعات وهبات لصالح الخزينة) سنة 2006، والعملية الثالثة (رقم 13134) بقيمة 40.201.513 ل.ل. سجلت على الحساب 48108 (قيد مؤقت للهبات والتبرعات) سنة 2008.
وهناك عملية رقم 17582 تاريخ 4/12/2007 سجلت عن طريق الخطأ في القيد المؤقت للهبات، بينما هي فعلياً اكتتاب سندات خزينة بالدولار الاميركي من وزارة المال في سلطنة عمان بقيمة 10 ملايين دولار اميركي.
(الأخبار)