الخبر لم يكن سهلاً على الشعب في مسخ الوطن. هال الجموع أن يتقاعد بطريرك الوطن عن مسؤوليّة رعاية الرعيّة. وفؤاد السنيورة ـــــ الوطني العليم بالشؤون الوطنيّة ـــــ شكر البطريرك رسميّاً على خدماته للبنان. والحقّ أنّ السنيورة هو خير من يحكم في الشؤون الوطنيّة لأنّه، في خضم حرب تمّوز وفي الملفات الكبرى والصغرى، خدم لبنان بتأنّ، ما بعده تأنّ، وبحرص ما بعده حرص. صغار النفوس فقط يعيّرون السنيورة ويطلقون أقذع النعوت عليه. لماذا؟ لأنّه قبّل وجنتيْ رايس أثناء العدوان الأميركي بعدما قالت إنّ تدمير لبنان هو ضروري كجزء من عمليّة مخاض لولادة شرق أوسط جديد.
وماذا يضير لو أنّ السنيورة ـــــ وهو لا يحتاج الى فحص دم لأنّه مشى في تظاهرة أو اثنتيْن في أيّام دراسته الثانويّة ـــــ تشوّق، من باب الوطنيّة والقوميّة «الحضاريّة» (أي المُتسربلة برداء الدكتوراه الفخريّة الذي أسبغه على الأمير نايف بن عبد العزيز) لحضور ولادة الشرق الأوسط الجديد. وقد أثنى أمين الجميّل أيضاً (الذي برّأ الأسبوع الماضي إسرائيل من تهمة احتلال مزارع شبعا، وقال إنّ خرق سيادة المزارع تمّ من قبل سوريا لا إسرائيل التي يحبّ ـــــ من طرف واحد ربّما) على البطريرك وعلى دوره.
البطريرك الماروني مفخرة للشعب اللبناني، بالرغم من الاعتراضات عليه من بعض الأصوات المُغرضة. هناك من يرى فيه أملاً للبنان، ومن يرى حتى في إدارته لطقوس القداديس حرصاً فائقاً على التقاليد الكنسيّة المهيبة.
هناك منّا من انتقد البطريرك، ومن ساق ضدّه شتّى الاتهامات والمزاعم، لكن تبقى الحقائق ناصعة. خدم هذا البطريرك لبنان لعقود، ووفق رؤية لبنانيّة محضة (على نسق رؤية «حرّاس الأرزة» أو القوات اللبنانيّة، لكن هذه تفاصيل). المهم أنّه خدم لبنان، و«بحبّك يا لبنان»، عن جدّ بحبّك. والذي يحبّ لبنان المُشتعل حبّاً ووئاماً واقتتالاً، يجب عليه (وعليها) حبّ البطريرك صفير.
وقد أصاب سليمان فرنجيّة في إشادته بالبطريرك قبل أسبوع، وأضاف أنّ إعجابه به بدأ منذ استقالته (أي قبل أيّام فقط). كما أنّ السنيورة الذي لا يريد أن يخضع لفحص دم لتبيّن مدى عشقه لعقيدة جورج بوش لأنّها في القلب قبل الدم، رأى في استقالة البطريرك «أمثولة» لجميع اللبنانيّين. وكم هو صحيح هذا الكلام. هناك من يتعلّق بالكرسي تعلّق الأطفال بألعابِهم. هناك من حرد وزعل، وكاد أن يثور أمام الكاميرات، فقط لأن كرسيّ رئاسة الوزارة، التي ورثها عن أبيه، طارت منه. هو يستحقّها، بصرف النظر عن غياب المواهب والكفاءة والجدّ والجديّة والمثابرة والعلم والمعرفة. ليس البطريرك صفير من هذه الطينة. لا. فقد استقال البطريرك من سدّة البطريركيّة (طوعاً ومن دون ضغوط فاتيكانيّة) وهو في أوج عطائه. حسناً فعل سليمان فرنجيّة الذي أثنى على البطريرك على تلك الاستقالة المُبكّرة. البطريرك استقال في سن الحادية والتسعين، أي أنّه اختار أن يضحّي بسنوات وعقود إضافيّة من الخدمة الكنسيّة في السلطة الدينيّة والمعنويّة، فقط لأنّه اكتفى ولم يعد طامعاً بالمزيد. في سن الحادية والتسعين، قرّر البطريرك أن يعتزل البطريركيّة، لا في سن المئة أو أكثر مثلاً. وهذا ما أعجب سليمان فرنجيّة فيه: صفات في البذل والقناعة والاكتفاء. لو كان البطريرك صفير لا يتمتّع بصفات التواضع والتضحية لاستمرّ في الخدمة العامة لعقد آخر من الزمن. لكنّه أراد أن يفسح أمام غيره من المطارنة ليخلفوه في سدّة البطريركيّة. كان يمكن البطريرك، مثلاً، أن يتقاعد في سن الخامسة والتسعين أو في سن المئة، لكنّه لم يفعل ذلك، مُفسحاً في المجال أمام أجيال جديدة من المطارنة، مثل المطران البيسري الذي وضع كتاباً عن فلسفة سمير جعجع في الزنزانة.
دخل البطريرك في حلبة السياسة اللبنانيّة بمجرّد أن خلف البطريرك خريش. وقد أثار الراحل خريش امتعاض الكثيرين في الإكليروس الفينيقي، إذ إنّه كان متعاطفاً مع قضيّة شعب فلسطين ومعادياً لإسرائيل والصهيونيّة، كما اعترف الأباتي بولس نعمان في مذكّراته. والبطريرك صفير وجد ضالّته الوطنيّة مبكّراً في الدور السياسي والميليشوي للقوات اللبنانيّة (ورديفاتها في «التنظيم» و«حرّاس الأرز»، كما تحرص جريدة «النهار» على إبراز أخبار الحزب الأخير، لكن ذلك لا علاقة له بذيليّة الحزب لراعيه الإسرائيلي). وعمل بجدّ وثبات، مذّاك، على إعلاء شأن القضيّة التي حملها بشير الجميّل ومات من أجلِها. البطريرك صفير نموذج للتفاني الوطني (وإن على النسق الـ«أبو أرزي»)، مهما قال وقوّل المشكّكون (والمُشكّكات).
طبعاً، هناك من يعترض على بعض مواقف البطريرك، مثل مواقفه من الطائفيّة. يُذكر أن البطريرك رفع شعاراً شهيراً إبّان انتخابات 2005، عندما طالب بأن ينتخب المسلمون في لبنان النوّاب المسلمين، على أن ينتخب المسيحيّون في لبنان النوّاب المسيحيّين. البعض (وهو قليل ـــــ والكرام غير قليل بالضرورة، على عكس قول السموأل بن عاديا) اعترض على فكرة البطريرك تلك لأنّها تفترض (وتهدف إلى) فصل المسيحيّين عن المسلمين (وفق القسَم الوطني الخالد لجبران تويني الذي ناشد فيه كل الشعب في لبنان بأن يبقوا منقسمين إلى مسيحيّين ومسلمين إلى أبد الآبدين). البطريرك لم يفرّط بالوحدة الوطنيّة. على العكس، هناك حكمة ووطنيّة في أن ينتخب المسلمون الممثّلين المسلمين، وأن ينتخب المسيحيّون الممثّلين المسيحيّين. والفكرة قابلة لأن تتطوّر قدماً، كي ينتخب السنّة الممثّلين السنّة وأن ينتخب الشيعة الممثّلين الشيعة، كي لا يختلط الحابل بالنابل. ولو خضعت الفكرة لنقاش أكاديمي رصين لاستحقّت أن تنعكس في إصلاحات دستوريّة واضحة، وعندها يصبح في لبنان، على سبيل المثال (والوئام أيضاً)، مجلس نيابي للسنّة وآخر للشيعة وآخر للأرثوذكس وآخر للموارنة، الخ. هكذا تبنى الأوطان وهكذا تندمل الجروح: عبر فصل الطوائف الواحدة عن الأخرى للعمل على طمأنة الجميع، وكي لا يؤثّر أبناء طائفة (كريمة) على أبناء وبنات طائفة أخرى (كريمة ـــــ طبعاً).
ولو بنينا على فكرة البطريرك، لأمكن تحقيق نوع من الاستفاضة الوطنيّة، فيصبح للبنان المجيد مثلاً «مطار السنّة الدولي»، ومطار آخر للموارنة وآخر للدروز، وهلم جرّا. ويمكن بناء ملاعب خاصّة بكلّ طائفة من الطوائف، منعاً للاختلاط المشين (ولا يجب أن نربط في التفريق العنصري بما يماثله في ممارسة العدو الصهيوني، لأنّ 14 آذار تردّد مرّة في السنة، أو أقلّ، أنّ إسرائيل «عدوّ»، والسلام). كما يمكن أن لا يقلّد لبنان المسلك الإسرائيلي عبر فتح طرق منفصلة للطوائف، فيصبح هناك: طريق الجنوب السالكة للسنّة وأخرى سالكة للشيعة. ويمكن فتح طرق صغيرة، أو أزقّة (ضيّقة) لما نسمّيه في لبنان «الأقلّيات» ـــــ نظراً الى الحجم الأصغر. والمجمّعات التجاريّة يمكن أن تتبع المسلك نفسه، لمَ لا. الكلّ يهون أمام مشروع بناء الوطن، أو الأوطان في وطن، لا فرق.
ثم هناك فكرة أخرى مُرتبطة هنا، إذ إنّ البطريرك قال في حديث بمناسبة الأعياد إنّ المسيحيّين في لبنان يُعدّون ليس بـ«الكثرة»، بل بـ«النوعيّة». وحديث النوعيّة مهمّ عند البطريرك، إذ إنّه يسمح له بالتعاطي الإيجابي مع الواقع الديموغرافي الذي يتوالد فيه الشيعة كـ«الفئران»، كما عنونت جريدة «النهار» إبّان الحرب، في مقالة عن الضاحية. وكلام النوعيّة يجب أن لا يثير حساسيّات لأنّ نوعيّة فريد حبيب وغيره أكثر من بادية للعيان، ولا مجال للتشكيك الطائفي فيها. ويهدف البطريرك في كلامه إلى طمأنة من بقي من المسيحيّين في العالم العربي، أو في «الشرق» كما يقول من تخدش مشاعره كلمة عربي.
يستحق البطريرك التقدير أيضاً، بسبب حرص غبطته على أملاك المسيحيّين. من غيره أبدى حرصاً على إبقاء أملاك المسيحيّين في أيدي المسيحيّين. من قرأ سيرة البطريرك صفير لأنطوان سعد يعرف كيف كان البطريرك ـــــ حرصاً على الوطن ـــــ يفاتح رفيق الحريري بشأن شراء المسلمين لأملاك مسيحيّة، فيردّ عليه الحريري بأنّ الشيعة هم من يفعلون ذلك (كيف تُتّهم الحريريّة بإقصاء أو تهميش أو استعداء الشيعة، وهي التي دعت زعيم الشيعة الأوحد، محمد عبد الحميد بيضون ـــــ ذا السجل الناصع في الوزارات ـــــ إلى إلقاء خطبة أمام جمهرة حضاريّة 14 آذاريّة؟).
وأنا أتفق مع طرح أمين الجميّل في محطة «إم تي في»، حين دعا إلى مبادرة الفاتيكان، «بعد عمر طويل»، إلى تقديس البطريرك. لمَ لا؟ أنا أشهد أنّ لهذا البطريرك معجزات يمكن أن تضاف إلى سلسلة المعجزات. من معجزات البطريرك الشهيرة تأييده للحريريّة في الانتخابات النيابيّة الأخيرة. ألم يلفت عاموس جلعاد المسؤول في وزارة الدفاع الإسرائيليّة في واحدة من وثائق ويكيليكس الى تأييد البطريرك لـ 14 آذار؟ إنّها معجزة، وخصوصاً عندما تتذكّر أنّ سعد الحريري هو الذي قاد حملة انتخابات 14 آذار. ويمكن إضافة معجزة أخرى من حيث قدرته على الاستمرار بالزعم أنّه غير مُنحاز، وأنّ بكركي في عهدته كانت مُنفتحة على كلّ الأطراف.
كذلك، فإنّ سعد الحريري قال بعد زيارته للبطريرك إنّه كان ينشده للنصح والمشورة في تجربته السياسيّة منذ 2005. وهذا التصريح يكفي للتدليل على حكمة البطريرك. ونحن الذين واللواتي تابعنا مسيرة سعد الحريري السياسيّة، على امتداد السنوات القصيرة الماضية، كنا بالفعل نتساءل عن مصدر عمق تحليل وسداد رؤية وبعد نظر وصلابة الموقف لمحسوبكم سعد. وهناك من سأل منّا عن مصدر عقل سعد الحريري السياسي ومنبعه، وإذا بالجواب يأتينا هذا الأسبوع. أي أنّ البطريرك صفير يستحق شيئاً من الرصيد والتقدير بسبب إنجازات سعد الحريري وصوابيّة مواقفه.
اصطحب سعد الحريري أثناء زيارته لصفير غطّاس خوري ـــــ الذي كشفت وثيقة ويكيليكس أنّه لا يرضخ لأي ضغط في ترشيحه الانتخابي الفاشل إلا للسفيرة الأميركيّة في لبنان ـــــ وداود الصايغ، الذي يزور البطريرك في الشهر مرّة، وليس من الأكيد أنّه يبحث معه في الحنين إلى اتفاق 17 أيّار فقط لأنّ الصايغ كان من أبواقها من وراء الستار ومن على صفحات جريدة «النهار» التي لم تناصر قضيّة في تاريخها مثل مناصرتها لقضيّة «الحلف الثلاثي» الطائفي في الستينيات وقضيّة 17 أيّار. وذكّرنا الحريري بأنّ والدَه، رفيق الحريري، كان يطلق على البطريرك العريق صفة «ضمير لبنان». وبعدما علمنا أنّ الحريري هذا كان ضالعاً في مشروع إسرائيل للبنان من خلال القرار 1559 نعلم أنّ الحريري هو أهل لأن يطلق الصفات والنعوت على رجالات لبنان (النساء مُستثنيات من المعادلة السياسيّة اللبنانيّة، بأمر من الطوائف والحركات العلمانيّة على حدّ سواء).
هناك مسألة عدم زيارة صفير لسوريا. صحيح. سجّل صفير موقفاً مميّزاً بعدم وطء قدميه أرض سوريا، أثناء سنوات وعقود تبوّئه لسدّة البطريركيّة. لكن صفير، للأمانة والإنصاف والتاريخ، زار بلداناً عدّة غير سوريا، فلماذا يُؤخذ عليه عدم زيارة سوريا؟ ألم يزر صفير واشنطن أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان، وألم يثنِ على ديك تشيني في واشنطن، وألم يقل إنّ الأخير يحاول جاهداً حل أزمة لبنان أثناء العدوان على لبنان؟ ألم يضع تشيني لبنان في قلبه (الضعيف نتيجة ذبحات صدريّة مُتوالية) طيلة سنوات عهد بوش؟ ثم لقد عاد صفير إلى لبنان أثناء العدوان، وهناك من أخذ عليه أنّه عاد على متن طوّافة عسكريّة أميركيّة، مرتدياً قبّعة عسكريّة أميركيّة (وهو صاحب القبّعات الجميلة المتنوّعة، ومنها المُذهّب، ومنها المُزركش، ومنها البسيط على الطراز الرهباني، ومنها القديم قدم الكنسية) لأنّه يصدح بشعارات السيادة ضد سوريا ويتحدّث بحرص عن سيادة لبنان. لكن مهلاً. البطريرك يتحدّث في السيادة فقط في ما يتعلّق بسوريا وبإيران، لا في ما يتعلّق بأميركا وفرنسا وإسرائيل. أي أنّ موقف غبطته صريح ومنسجم مع نفسه تماماً. وقد أورد كتاب أنطوان سعد عنه أنّه كان يطلب من إدارة ريغان دعوته إلى واشنطن، وكان مصرّاً على أن يحظى دوماً بلقاء ـــــ وإن لدقائق ـــــ مع الرئيس الأميركي. وما الضير في ذلك إذا كان يخدم لبنان؟ والبطريرك صفير قال قبل أيّام لجريدة للّو المرّ، «الجمهوريّة»، بالحرف: «التدخلات منها ما يفيد ويخدم لبنان، ومنها ما يضرّه». أي أنّ التدخّلات غير السوريّة وغير الإيرانيّة في شؤون الوطن تفيد الوطن. عاش الوطن.
ثم نستطيع أن نسجّل على البطريرك عروبته وقوميّته التي نافست قوميّة جمال عبد الناصر. نذكر أنّه أصدر بياناً (مخالفاً للقانون الانتخابي اللبناني عشيّة الانتخابات الأخيرة، لكن زياد بارود تغاضى عن ذلك لأنّ ذوي الطموح السياسي في لبنان يحتاجون أيّما احتياج إلى رجال الدين ليباركوهم) صرّح فيه عن إيمانه بعروبة لبنان بوجه المدّ الإيراني الذي كاد أن يصل إلى مشارف الديمان. صحيح أنّ البطريرك لم يصرّح يوماً قط بإيمانه بعروبة لبنان، وصحيح أنّه يتحدّث دوماً بخطاب القوميّة اللبنانيّة ويتحدّث عن «الشرق»، بدلاً من العالم العربي. لكن، لعل صيغة «الشرق» أشمل لأنّها تشمل دولة الكيان الصهيوني. لكن إطلاق موقف عروبي ولو لمرّة واحدة، ولو بضغط من عروبيّي الوهابيّة السعوديّة في فريق 14 آذار، يكفي كي نقتنع بعروبة البطريرك صفير. وقد ينصرف البطريرك صفير في سنواته وعقوده الباقية من أجل أن يخدم عروبة لبنان، وقد يطالب بعودة اللواء السليب أيضاً ـــــ هذا إذا لم تنجح دموع السنيورة الغزيرة في عودة اللواء السليب في وقت قريب. إنّ عروبة البطريرك صفير، بعد تصريح واحد، لم تعد موضع شك وقد يصدر بياناً عروبيّاً آخر قبل الانتخابات النيابيّة المقبلة من أجل توطيد دعائم الحكم السعودي الوهابي في لبنان. وفي هذا خدمة للأقليّات في المنطقة، لأنّني قرأت كلاماً لحكيم آخر من لبنان، محمد علي الجوزو، أشاد فيه بتعامل سلالتيْ البحرين والسعوديّة مع الأقليّات على أنواعها. يكفيني هذا. (المفتي الجوزو راسخ في العلم والتسامح، أما أنا فلا).
هذه مناسبة لوضع الأحقاد والضغائن جانباً. هذه مناسبة وطنيّة جامعة. نستطيع جميعاً، في مسخ الوطن (أو في المهاجر حيث يقطن نحو مليار لبناني مسيحي، وفق تعداد البطريرك صفير الدقيق لعدد مسيحيّي لبنان في المهجر) أن نتوحّد في تكريم البطريرك، في مناسبة عزوفه عن الاستمرار في البطريركيّة. نستطيع أن ننشد بصوت واحد أنّ مجد لبنان قد أعطي للبطريركيّة من المُستعمر الفرنسي الذي حنّ على لبنان وأحبّه مثلما أحبّ بوش العراق ـــــ إن لم يكن أكثر (لا يمكن أن نتصوّر أنّ العراق تحت الاحتلال، وبعد انسحاب المُحتلّ، يمكن أن يفكّر بإطلاق أسماء المحتلّين الأميركيّين على شوارع وجادات في العراق، لكن لبنان فعل ذلك، وأكثر من الإشارات على الحبّ بينه وبين المُستعمِر. وإطلاق اسم البطريرك صفير على حديقة في بيروت لا علاقة له بجادة «ويغان»).
البطريرك صفير ـــــ يقول قائل ـــــ لم يميّز بين لبنانيّ وآخر، إلا من حيث الطائفة والمذهب والعقيدة، ليس إلا. هو ـــــ يقول قائل ـــــ حمل قضيّة عملاء إسرائيل في لبنان ولم يميّز بينهم، وقد أسهم في عدم معاقبة أيّ منهم لسعة صدره، ولأنّ الرحمة ضرورية على عملاء إسرائيل، وهذا كان سبب إرساله ممثّلاً عنه لتأبين يليق بالعميل عقل الهاشم. وكلام البطريرك عن النوعيّة في المسيحيّة ما هو إلا تأكيد لثوابت البطريركيّة منذ أن تبوّأ المنصب. لكن تاريخ البطريركيّة المارونيّة يطوي صفحة ويفتح أخرى بتنحّي البطريرك المُبكّر عن السدّة. هذه مناسبة للتكريم والتقدير، مهما كان. والمجد للبنان (وللباذنجان).
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)