عزيزي اللاجئ الفلسطينيّ، في كل مكانٍ على وجه هذه البسيطة، تحيّة العودة والوطن. أكتب لك هذه الرسالة في اليوم الذي تحتفل فيه دولة الاحتلال بإنشائها، وهي التي أقيمت على أنقاض شعبنا العربيّ الفلسطينيّ، وأسمح لنفسي بأنْ أخصّ بالذكر عزت شحرور، ابن بلدي ترشيحا، التي كنّا نُسميها ولا نزال، عروس الجليل. أنت يا عزت لاجئ في الصين، خرجت إلى النور في مخيم النيرب للاجئين في سوريا، بدون جواز سفر، وأنا لاجئ مع وقف التنفيذ في موطني، فلسطين. قبل عدّة أيام مررت بجانب بيت عائلتك في ترشيحا، كما وصفته لي: لا بيت، لا مفاتيح، لا تراب، لا حجارة ولا من يحزنون.64 عاماً مضت منذ أن شرّدتكم العصابات الصهيونيّة. لم ألتق بك يا عزت، أراك من على شاشة «الجزيرة» الفضائية ولكنتك الترشيحاوية ما تزال تُميّز صوتك، وأفتخر بك. أرى لزاماً على نفسي أن أوضّح لك يا عزيزي، رغم البعد الجغرافي بيننا، وبصورة غير قابلة للتأويل: لا أشعر بأيّ انتماء للدولة العبرية، لا لرموزها، لا لعلمها ولا لنشيدها الوطني. حالة من الكآبة تنتابني كل سنة عندما تحتفل الدولة اليهودية بيوم تأسيسها، وباعتقادي المتواضع فإنّ الأغلبية الساحقة من الإسرائيليين لا تريد مني أنْ أشعر بالانتماء، وبالتالي فإنّ هذه الأرض هي موطني، وإسرائيل ليست دولتي.
ولكن، ولكن يا أخي عزت، الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ. رئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتنياهو، يُطالب قيادة سلطة رام الله المنقوصة، وفي مقدمتهم السيّد الرئيس غير الرئيس محمود عبّاس، الذي وضع جميع البيض في سلّة الأميركيين والإسرائيليين، بالاعتراف بأنّ الدولة العبرية هي دولة اليهود فقط. ووزير خارجيته، الفاشي أفيغدور ليبرمان، يُخطط لنكبة أخرى، نكبة يتمُ من خلالها طرد ما تبقى من أصحاب الأرض الأصليين، أو كما يسمـوننا عرب الـ48، أو فلسطينيي الداخل. لأول وهلة قد يبدو حديثي بعيداً عن الواقع، لكن عندما قرأت يا عزت، أنّ الحركة الصهيونية بدأت بالتفكير بتقسيم العراق في 1917، وهو العام نفسه الذي أُطلق فيه وعد بلفور المشؤوم، أتوصل إلى نتيجة بأنّ هذه الحركة الاستعماريّة لا ولن تتورع عن عمل أي شيء من أجل تطبيق مقولتها الكاذبة عن فلسطين بأنّها أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض، ولتحقيق أطماعها داخل وخارج حدود فلسطين التاريخيّة.
أتذكر يا عزت، عندما تكلمنا هاتفياً. أتذكر أنّك رويت لي قصة الأطلس ونجلك البكر محمد، الذي عندما يرى الأطلس يبدأ بالبحث أولاً وأخيراً عن قريته ترشيحا، ويغضب عندما يرى أنّ الأطلس في بعض الأحيان هو أطلس عميل وخائن، يتطاول على الرموز، ولا يشمل قريته، قريتك، قريتي، قريتنا، ترشيحا. هذه هي قوتنا يا أخي أبو محمد، قوتنا، نحن أبناء الشعب العربي الفلسطينيّ، في أننا ننقل من جيل إلى جيل روايتنا عمّا حلّ بنا في 1948. الرواية الإسرائيلية تقول استقلالاً، وروايتنا العربية الفلسطينية تؤكد على أنّه في 1948 حلّت بشعبنا النكبة. دحضنا يا أخي، أقوال رئيسة وزراء دولة الاحتلال السابقة، غولدا مائير، بأنّ الكبار سيموتون، والكبار سينسون.
والله يا عزت، كلما أتذكر قصة الأطلس ونجلك محمد، أتذكر أنني قرأت كتاباً باللغة العبرية مؤلفه ضابط إسرائيليّ رفيع المستوى في جيش الاحتلال (رفيع المستوى من حيث الإجرام)، يكتب فيه أنّه انزعج كثيراً عندما احتلت دولته لبنان في 1982. لا لم ينزعج من الاحتلال، ولا من جرائمه، ولا من عدد الأبرياء الذين سقطوا بنيران قواته، ما أزعجه، أنّ الأطفال الفلسطينيين، الذين كان يلتقي بهم وهم في عمر الورود، كانوا يقولون له بكل فخر واعتزاز وكبرياء: أنا من عكا، وأنا من يافا، وأنا من لوبيا، وأنا من أسدود. إنّه لا يعلم أنّ العودة بالنسبة لنا أهّم من الدولة، إنّه لا يدري أننا هنا باقون، هنا مرابطون، على أرض الآباء والأجداد، لنستقبل العائدين إلى وطنهم الذي دُنس وتمّت استباحته. وفي هذا السياق عليّ أن أؤكّد بصورة قاطعة وحازمة بأنّ الأقليّة العربيّة الفلسطينيّة في مناطق الـ48 هي أقليّة مختلفة عن باقي الأقليّات في العالم. الفلسطينيون في الدولة العبريّة هم من مواليد هذه الأرض الطيبّة، إنّنا نعيش هنا، وهذا الأمر ليس منّة من أحد، لسنا ضيوفًا في بلادنا، وبطبيعة الحال لسنا عابري سبيل، كنّا هنا قبلهم، وهم الذين وصلوا إلينا واغتصبوا أرضنا وعرضنا ودمّروا الشجر والحجر والأرض، وتنفسوا، وما زالوا، يتنفسون الهواء الذي سُرق منّا.
عزت، على الرغم من محاولاتي المتكررة لفهم الإسرائيليين، أقرّ وأعترف لك بأنّني فشلت في مهمتي: كيف يحتفل شعب بيوم استقلاله وهو لا يزال يسيطر على شعب آخر بقوة السلاح؟ وبالتالي لا أبالغ البتة إذا جزمت بأنّه لا يحق للإسرائيليين أنْ يحتفلوا باستقلالهم، بسبب الاحتلال والجرائم التي اقترفها ولا يزال يُنّفذها بحق أبناء شعبنا في الداخل وفي الخارج وفي كل مكان ممكن.
في المدرسة الثانوية في قريتي الحبيبة ترشيحا، أجبرتنا يا أخي عزت، مَنْ تُطلق على نفسها واحة الديموقراطية الوحيدة في الصحراء العربيّة، أن نتعلم التوراة. ربما كان هذا عملاً صائباً من منطلق «تعرّف على عدوك»، لكن لماذا لم يمنحونا الفرصة لتعلم تاريخ الصراع الصهيونيّ ــ الفلسطينيّ؟ يعتقدون أننّا نسينا أيام الحكم العسكري الذي كان مفروضاً علينا حتى 1966. حاولوا بكل الوسائل المتاحة وغير والمُباحة ترويضنا وتدجيننا وتحويلنا إلى ما يُسمى بالعرب الجيدين، ولكنّهم فشلوا في ذلك، باعترافهم هم.
وبغضّ النظر، يا أخي عزت، عن موقفك من الأزمة السوريّة، فلنتحدّث بصراحةٍ: العرب اتفقوا على حياكة المؤامرة ضدّ بلاد الشام الممانعة والمقاومة، التي تستضيف العديد من القيادات الفلسطينيّة، وتحتضن مئات آلاف من اللاجئين من أبناء جلدتنا... أرسلوا المراقبين الدوليين لمراقبة وقف إطلاق النار بين النظام الحاكم وبين الجماعات الإرهابيّة المموّلة من دولٍ عربيّة وغربيّة، وماذا مع فلسطين، قضية العرب المركزيّة والأولى؟ فلسطين التي ترزح تحت نير الاحتلال منذ عشرات السنين! ألا يحّقُ لها حماية دوليّة من الاحتلال، الذي أمعن في تنفيذ الجرائم والمذابح ضدّ شعبها الأعزل؟ لماذا يكيل العرب بمكيالين؟ لماذا لم يُستنفروا من أجل فلسطين، كما فعلوا ولا يزالون في ما يتعلّق بسوريّا؟ هل لأنّهم أدمنوا إطلاق الوعود العرقوبيّة، وتبنّوا الرياء والنفاق قولاً وفعلاً ؟
وفي النهاية، أخي عزت، أريد أن أقول لك: ترشيحا بانتظارك، ترشيحا بانتظار جميع أولادها في جميع أصقاع العالم، ولنا موعد مع جميع اللاجئين هنا، هنا في فلسطين. فنحن سننتظر حتى نشطب من قاموس فلسطين مصطلح اللاجئين، لأنّ على هذه الأرض ما يستحقُ الحياة.
* كاتب من فلسطين 48