عزيزتي نادية،حين وجّهت إليكِ قبل أيّام رسالة شخصيّة أرجوك فيها عدم الذهاب إلى تل أبيب، كما تذهبين إلى لندن أو كوبنهاغن أو برلين للمشاركة في ندوة تنظّمها السفارة الفرنسيّة هناك، حين تمنّيت عليك عدم ارتكاب هذا الخطأ الأخلاقي والسياسي الفادح، إنّما كنت أفعل ذلك من منطلق احترامي لتجربتك الفنيّة، وإعجابي بشجاعتك الفكريّة والسياسيّة.

فقد عرفناك صاحبة أفلام مميّزة ومثيرة للجدل، أبرزها «أولاد لينين» و«علمانيّة انشالله»… ومثقّفة تونسيّة رفعت سقف الجرأة، وناضلت بلا تنازلات، من أجل مجتمع مدني تعددي، ودولة علمانيّة ديموقراطيّة عادلة، قائمة على قوانين عقلانيّة وعصريّة تتسع للجميع، وتمثّل كل الناس، وتحمي حقوق الجماعات والأفراد. وصورتك تلك هي التي نحبّها، وهي التي سنحاول أن نحتفظ بها للذكرى، في الأيّام القاتمة، بعدما عبرتِ نقطة اللارجوع.
لقد استسلمتِ لنداء الهوّة، لنزعة انتحاريّة لم تنفع في إيقافها كل محاولات مخاطبة وعيك وعقلك، وتذكيرك بالتاريخ القريب والبعيد، وطبيعة الصراع من أجل الحريّة والعدالة. تجاهلت النداءات والاستغاثات، وأغفلت موجة الاستنكار العارمة التي استبدّت برفاقك وأهلك وزملائك ومحبّيك وشركاء الحلم والمعركة، داخل تونس وخارجها. واتهمت هؤلاء بأنّهم يشنّون عليك حملة أصوليّة ، لا تختلف كثيراً عن التنكيل الذي تعرّضت له، بعد «علمانيّة انشالله»، من قبل حفنة يائسة من الشبّان الذين جيشتهم الوهّابية. ربّما يخيّل إليك الآن أنّك تؤدين دوراً بطولياً في تمرّدك على قواعد «جماعة رعناء أعماها التعصّب». وفي هذا المنطق الأعوج تعبير تراجيكوميدي عن الوعي المهزوز لدى بعض النخب المستلبة (من بسمة قضماني إلى بوعلام صنصال) التي تريد أن ترمي الطفل مع الماء الوسخ. هكذا بات الارتماء في أحضان العدوّ خياراً تقدميّاً شجاعاً… ولعب دور شاهد الزور على المذبحة المتصادعة منذ ٦٣ عاماً في فلسطين والأراضي العربيّة، فعل اعلان القطيعة مع الأنظمة القمعيّة الفاسدة وجيوشها وديماغوجيّتها، وموقفاً إنسانيّاً يعزّز الحوار والسلام والانفتاح على طريق «المستقبل الأفضل».
لعلّك تفضّلين وضعيّة البطلة الملعونة التي رذلتها جماعتها كما يحدث أحياناً للمبدعين الشجعان. نوع من تسليمة نسرين تونسيّة يعني! لكن لا، للأسف صديقتي، لست أنتيغونا كما يخيّل إليك في هذه اللحظات، وأنت متربعة إلى جانب باسكال بروكنير، على منصّة «المسرح الوطني الإسرائيلي» في تل أبيب، لمناقشة قضايا العلمانيّة في المجتمعات العربيّة . أو تتجوّلين في شوارع الاحتلال التي بنيت على أنقاض مدينة عربيّة. «تحت اسرائيل… فلسطين» كتب إيلان هاليفي ، يوم كان الشرفاء يقومون برحلتك معكوسة، أي يهجرون اسرائيل للانضمام الى صفوفنا، ودعمنا في معركتنا العادلة. لست أنتيغونا، بل مزيج من يوضاس وبروتوس. وغداً تعودين إلى بيتك، وتجدين نفسك مثل ليدي مكبث وهي تصرخ في حلمها الكابوسي: «كلّ العطور العربيّة لن تقوى على غسل هاتين اليدين».
أنت الآن أقرب إلى بروتوس بعدما سدّد الطعنة الأخيرة ليوليوس قيصر، وها هي استراتيجيّتك الدفاعيّة التي قرأناها هنا وهناك في الصحافة الإسرائيليّة، تذكّر بخطاب ذلك النبيل الروماني القديم: «ضميري مرتاح لأنّني لم أخن أيّاً من أصدقائي (…) أحب القيصر كثيراً، لكنّني أحب روما أكثر». «روما» في خطابك هي قضيّة العلمانيّة ومواجهة الأصوليّات التي نذرت لها نفسك طبعاً. فهل أنت من السذاجة إلى هذا الحدّ بحيث تعزلينها عن جوهرها الوطني والأخلاقي والإنساني؟ معركة تقدّم المجتمع لا تخاض من خارجه، ولا تخاض ضدّه… إن إسلاميّاً في مواجهة إسرائيل خير من ألف مثقف «علماني» في أحضانها. علماً أننا سنشهد تنافساً في المستقبل القريب بين بعض متأسلمي السلطة وبعض الليبراليين واليساريين التائبين على من ينحني أفضل أمام الكيان الصهيوني. معركة العلمانيّة لا تخاض من باريس يا عزيزتي، ولا تخاض في تل أبيب، إذا كنت جادة فيها… حين ستلتقين في أحد شوارع تونس، المرّة المقبلة، أحد هؤلاء الشبان المهتاجين الذين يظنّون أنّهم يصلحون المجتمع والدولة، فيما هم يزجّون بنا في ظلاميّة بلا قرار، لن تمتلكي من الجرأة ما يكفي للنظر مباشرة في عينيه. لن تكون لديك أي شرعيّة لمخاطبته بعدما أكلت على مائدة قاتليه، ولن تشرّفي قضايا التقدّم والعدالة التي يناضل من أجلها رفاقك في تونس وسائر الدول العربيّة.
ويحك يا صديقتي،
هل يعقل لرفض الديماغوجيّة والشعبويّة واللغة الخشبيّة التي استعمرت وعينا دهراً، أن يؤدّي إلى التخلّي عن القضايا الوطنيّة المحقّة التي استهلكت من كثرة المتاجرة بها، وسطّحت تحت وطأة الشعارات الميتة واللغة الجوفاء؟ أم أن إغراءات من نوع آخر تقف وراء هذه الردّة التي أصابت نوعاً من النخب الساعية إلى انتزاع الشرعيّة والاعتراف والنجاح والرواج في الغرب عامة، وتحديداً في فرنسا التي تمارس ديبلوماسيّتها ومراكزها الثقافيّة ابتزازاً حقيقيّاً، على المثقفين والمبدعين العرب كي يمضوا في لعبة التطبيع الثقافي مع إسرائيل، ويقوموا بأنسنة قاتلهم وكسر عزلته الخانقة والتغطية على جرائمه المقبلة… لقد وقعت في هذا الفخّ اللئيم يا نادية، عن قصد أو بغير قصد، عن سذاجة سياسيّة، أو عن انتهازيّة وسابق تصوّر وتصميم.
كتبت قبل أسبوع أرجوك واستعطفك ألا تمضي في رحلة العار، ألا تقضمي التفاحة المسمومة التي مدّتها لك يد المسخ البشع المتنكّر في ملابس ماريان ـــ أيقونة الثورة الفرنسيّة. فعلت ذلك إيماناً منّي بأن المعركة الطويلة النفَس التي ستكون عنوان المرحلة المقبلة، من أجل التقدّم والتنوير، تقتضي ممّن يخوضها أن يتجذّر في التربة المحليّة الخصبة بكل تناقضاتها… وأن يقف في المعمعة وسط الجماعة الهائجة مهما قست عليه الأنواء… وأن يصغي إلى شعبه، وينتمي بكل جوارحه إلى الواقع الذي يعمل على تغييره مع الناس، ومن أجلهم. لا يمكننا أن ننظر إلى حركة المجتمع من برجنا العاجي، أو نحاول مقارعة السائد من خارجه، متسلّحين بمجموعة من الأفكار المحنّطة. تلك
«العلمانيّة الشيك» موضة رائجة، صورة مزوّرة ولائقة سياسيّاً في مرآة الاستعمار الجديد. استعمار لا تهمّه قضايا التقدّم والتنمية والعدالة والحريّة في مجتمعاتنا، بل همّه أن يحمي مصالحه الاستراتيجيّة على حسابنا، فيما هو يحتضننا بحنان مفتعل، كما احتضنتك السفارة الفرنسيّة في تل أبيب.
اقترحت عليك أيضاً أن تلتقي في باريس زميلك السينمائي الإسرائيلي إيال سيفان صاحب «عبيد الذاكرة»، وأن تسأليه رأيه في تلك الزيارة، قبل القيام بالخطوة المشؤومة. الآن فات الأوان. لم يعد للكلام من معنى. لم يعد لنا سوى أن نتمنّى لك النجاح في حياتك الجديدة، محاولين البحث في أفلامك القديمة عن بعض العزاء. على أمل أن يأتي يوم تغيّرين فيه قناعاتك، وتتلين على مسامعنا فعل الندامة. أما زال ذلك ممكناً؟



رسالة ومرافعة

في مقالة بعنوان «رسالة إلى الذين يحبونني، لكنهم لا يتفقون معي»، تقدّم نادية الفاني مرافعة مطوّلة تسعى من خلالها عبثاً إلى إعطاء الانطباع بوجود أوجه تشابه بين الهجمات التي تعرضت لها بسبب فيلمها الجريء «علمانية انشالله» (أو «لا الله ولا سيدي») والانتقادات التي أثارها قرارها الملتبس بزيارة الكيان الغاصب. تخلص إلى القول: «قرّرتُ زيارة تل أبيب. لكنني أبقى مدافعة شرسة عن القضية الفلسطينية، وأعارض الاستيطان».
تم تعديل هذا النص عن نسخته الأصلية بتاريخ | 08 حزيران 2012