السيدة التي تصرخ في وجه اللاجئين السودانيين تعبّر عن وضع «المفوضيّة العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين»، بعد دخول إضراب اللاجئين عن الطعام يومه الثالث عشر. هيستيريا. تصرخ السيدة من المفوضيّة على هذه اللاجئة وتلك، محاولة إرسال الجميع إلى منازلهم، وإعادة الرصيف إلى سابق عهده، قبل الاعتصام. لكن، ربما، ما لا تعرفه «سيدة المفوضيّة» أنّه لكي تنال مبتغاها، عليها أن تبدأ بخفض صوتها ورفع مستوى الحوار.
التأنيب يطاول خصوصاً نعيمة. فـ«سيدّة المفوضيّة» تحاول أن تظهر في هيئة من يصرخ خوفاً عليها، إذ إنّ صحّة نعيمة دقيقة، فهي تعاني من كسور في ظهرها ورجليها، تسندهما أسياخ فضيّة في جسدها النحيل. ابنها عمّار إلى جانبها، يشاهدها تتقيّأ كلّما ابتلعت ماءً في معدتها الخاوية. «سيدة المفوضيّة» تنهرها وتطلب منها الذهاب لأنها ستؤذي نفسها إن بقيت في الخيمة على الرصيف المقابل لمكاتب المفوضيّة. لكن نعيمة التي حفظت ألاعيبها، رفعت وجهها الباكي إليها وأخبرتها أنّ الموت أفضل ممّا تعانيه.
نعيمة أصيبت بكسور عندما كانت لا تزال طفلة صغيرة في سيريلانكا. الفقر دفعها إلى ترك المدرسة للسفر والعمل في لبنان حيث تعرّفت إلى زوجها محمد، اللاجئ السوداني. لكن فقر العائلة في بلدها الأم لم يعد يمثّل أزمة لها الآن، بعدما ابتلع «تسونامي» عام 2005 جميع أفراد عائلتها، ورجلي أخيها الوحيد المتبقّي لها بعد الكارثة. بقيت هي وزوجها وابنها في بيروت، ليعيشوا... من قلّة الموت، ومن دون أن تمتدّ يد المفوضيّة لتساعد زوجها اللاجئ وعمّار، الذي سيصبح قريباً في الخامسة من عمره، ولم يدخل مدرسة بعد.
تنبّهت «سيدة المفوضيّة» بعد برهة إلى أنّ نعيمة تبكي من كثرة ما صبرت، وليس خوفاً على صحّتها، فتركتها والتفتت إلى اللاجئة السودانيّة هالة قائلة: «أنت حامل لا يجوز أن تضربي عن الطعام، اذهبي إلى بيتك». لكن هالة هي الأخرى لم تعرها اهتماماً. ستبقى مع زوجها، مضربين عن الطعام، حتى ينالا حقوقهما وحقّ طفلهما الآتي. فزوجها هارون يحمل بطاقة اللاجئ منذ عام 2009، لكنه مع ذلك لم يحصل أبداً على مساعدة في الإيجار كما يقول. وهو لا يعرف بعد معيار المساعدة الصحيّة بما أنّه دفع، في أول زيارة إلى الطبيب، 50 دولاراً من المئة التي يملكها ليصرفها على عائلته، ليصوّر ابنه القادم. أمّا في المرّة الثانية فأهدوه الصورة مجاناً من دون أن تشمل المساعدة أسعار الأدوية التي تحتاج إليها هالة. راتب هارون يبلغ 300 دولار فقط. يدفع منها 200 دولار لإيجار غرفة في شقة يتقاسمها مع لاجئين آخرين. لكنه منذ بدء الاعتصام خسر غرفته وعمله كما خسروهما المعتصمون الآخرون.
عادت السيدة أدراجها إلى «قصرها» المدعّم بالألواح الأسمنتيّة لتراقب المشهد من شبّاكها. لو نجح إرهابها وسبابتها التي أصرّت على أن تبقيها مرفوعة لتهدّد فيها، لكانت تخلّصت من مضربتين عن الطعام أول من أمس. خافت على صحّة السيّدتين أمام باب المفوضيّة، لكنها لم تسأل عن الأربعة الآخرين الذين نُقلوا إلى المستشفى بسبب إضرابهم عن الطعام. هي ستنظر، ربما، بارتياح اليوم إلى موقع نعيمة الفارغ بعدما نقلت صباح أمس إلى المستشفى هي الأخرى. فهي طلبت منها الرحيل بما أنّه لا يحق لها بطلب مساعدات المفوضيّة لأنها سيريلانكيّة، لكنّ اللاّجئين حثّوا المرأة المريضة على الذهاب إلى منزلها وترك ابنها الصغير معتصماً معهم، بما أنّه لاجئ. عندما عادت «سيدة القصر» لتطلّ من خلف الحائط الأسمنتي، أخبروها أنّ عمّار الصغير هنا وحده. تركته أمّه في «حماية المجتمع الدولي»، وإذا كانوا لا يريدون مساعدتها وزوجها فهم مسؤولون عن ابنها. إلا أنّ السيدة عادت واختفت غير مبالية! فقد تكون طريقة تعامل المفوضيّة مع الأزمات هي أكثر ما يدينها. نحو عشرين لاجئاً سودانياً مضربون عن الطعام منذ قرابة أسبوعين من أجل إعادة توطينهم، ومن أجل تواصل أكثر فعاليّة ومتابعة أجدى لملفاتهم، وتأمين المساعدات الضروريّة لهم ليكملوا الانتظار هنا بكرامة. لكنهم يصطدمون دوماً بمفوضيّة غير مستعدة للحوار، إن كان مع اللاجئين أو الإعلام الذي تكرّمت عليه المفوضيّة أخيراً ببيان، إن كان يفيد بشيء فإنّه يظهر إصرار المفوضيّة على المضي في سياسة الصمت والمرور فوق 20 لاجئاً ينطفئون شيئاً فشيئاً أمام مكاتبها.

http://www.al-akhbar.com/node/95938