منذ 14 شباط الماضي، بدأ رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري استخدام كل ترسانته السياسية. رفع عنوان إسقاط السلاح ومضى به إلى موعد ذكرى انطلاقة 14 آذار. لم يحقق شيئاً، فهذا العنوان لم ينجح في شد عصب جمهوره في مهرجان 13 آذار، بل انقلبت المعادلة وتشنّج جمهور الخصم الذي بات يطالب قيادته بـ«الشعب يريد السلاح». ويمكن من يجول في شوارع بيروت ويناقش أهلها، من مختلف الانتماءات، أن يلحظ أنّ ناس الأقلية الجديدة يفضلون التمسك بالمحكمة الدولية بدل إسقاط السلاح. أما ناس الأكثرية الجديدة، فهم يفضلون فكرة الحفاظ على السلاح على مبدأ استخدامه!إذاً، استخدام سلاح إسقاط السلاح لم ينجح مع الحريري، ما اضطرّه إلى نبش الشعارات التي يرى أنها ستبقيه على قيد الحياة سياسياً: الهجوم على سوريا وإيران. منذ أكثر من أسبوعين، لا تكلّ كتلة المستقبل النيابية ولا تملّ من نفي أي دور لها أو لمسؤولي التيار في التدخل في الشؤون السورية. بعدما بدأ تسرب فيديوات تشير إلى تورّط نواب مستقبليين بقسم من أحداث سوريا الدموية.
وفي الكلام على علاقة الحريري بأحداث سوريا، يتبين أن الحريري لم يتورّط شخصياً بأي موقف تحريضي على النظام السوري، ولم يدعم هو شخصياً أي خطوة في هذا الاتجاه. لكنه لم يتدخل لمنع بعض المقربين منه من التورط في خطوات عملية، كما تشير مصادر معنية. لكن ذلك لم يجعل سوريا تعفيه من المسؤولية حيال تدخل فريقه بالشؤون السورية.
والأجدر أن يصغي كثيراً إلى مجموعة من السفراء الذين يعدّهم أساسيين في لبنان. وهو كان قد التزم الخيارات السياسية لبعضهم. مثلاً، سمع الحريري من السفير الفرنسي، دوني بييتون، أنّ الضغوط على دمشق ستزداد في الأيام المقبلة، وأنه ليس مسموحاً للقيادة السورية بأن تمسك لبنان وتخلّ بالتوازن السياسي فيه.
مواقف بييتون في هذه المرحلة تصدم البعض أحياناً وتدفع آخرين إلى اتخاذ خيارات جنونية. فالسفير الفرنسي عبّر في أكثر من مجلس عن امتعاض بلاده من سياسة سوريا، وقال حرفياً الآتي: «يئسنا من النظام في سوريا». ولم يتردد ممثل باريس لدى بيروت بالإشارة إلى أن بلاده شجعت على ما يبدو المعارضين السوريين الموجودين على أراضيها، وتعطيهم حرية الحركة بالكامل ودون ضوابط، عكس ما كانت عليه الأمور في السابق، حيث كان هؤلاء المعارضون يحسبون الحساب اللازم لرد فعل السلطات الفرنسية في حال قيامهم بأي خطوة تجاه النظام السوري. ويستكمل بييتون حديثه في أحد المجالس بالإشارة إلى أن فتح المجال أمام المعارضين السوريين ليس سوى جزء من الضغوط على دمشق، المفترض استكمالها وتطويرها.
وصلت أجواء بييتون إلى الحريري الذي شعر بأنّ ثمة ما يدعوه إلى التفاؤل بفجر جديد قد يشرق على المنطقة ويزيح عن قلبه كل العقبات ويعيد صياغة الواقع السياسي ويرجع إليه ما يظنّه من الإرث العائلي.
لكن اتخاذ الحريري موقفاً ما في الداخل أو الخارج يتطلّب الاستماع إلى أكثر من سفير. فطلب فهم الموقف الأميركي مما يجري، وجاءه الجواب التالي من عوكر: «ليس جديداً الحديث عن فصل قطبي المحور السوري ـــــ الإيراني. هذا هدفنا في المرحلة الراهنة وهو من مصلحتكم ومن مصلحتنا. حاولنا طوال الأشهر الماضية تحقيق هذا الفصل عبر الترغيب، أحطنا سوريا وأعدنا وصل العلاقة معها وفتحنا النقاشات اللازمة، لكن ذلك لم يفلح مع قيادتها، فلم يبقَ أمامنا سوى خيار الترهيب وإفهام النظام فيه بأنه مهدد جدياً في حال استمراره بهذا النهج وبهذه السياسة الخارجية».
حلل الحريري فحوى الموقف الأميركي بأنّ فصل سوريا عن إيران يستوجب إقلاق الأولى والهجوم على الثانية. شغّل ماكينته الإعلامية والسياسية في ما يخص إيران، وسحبت البيانات المعدّة سابقاً وأعيدت تلاوتها على الشاشات وعلى المنابر، وحافظ على موقفه العلني الحيادي من سوريا، باعتبار أنّ المسّ بالعلاقات اللبنانية ـــــ السورية يهدد الأخوّة. لكنه وجد أنه لإقلاق دمشق، لا أجمل من دعم التحركات الشعبية فيها، باعتبار أنّ هذا الأمر كفيل بإفهام الرسالة.
وضع الحريري هذه الأفكار على الهامش حين سمع المسؤولين السعوديين الذين عكسوا مواقف متضاربة من الوضع في سوريا؛ إذ سجّل كل تيار رأيه الخاص. لكنه ازداد حيرة حين استمع إلى تعدّد الآراء السعودية واختلافها، ولجأ إلى مكان آخر. فطرق الباب التركي سائلاً عن الموقف من سوريا، فسمع كلاماً زاد عليه الالتباسات؛ إذ أكدت الأوساط التركية أنّ أنقرة تعارض إسقاط النظام السوري وتدعم استقرار سوريا ما دام البديل غير معروف، وأنّ حسن علاقتها بدمشق يرتبط بملفات وقضايا عديدة من الشمال إلى الجنوب.
بعد إصغائه إلى السفارات التي يراها «معنية»، لم يعرف الحريري كيفية حسم موقفه من التحركات الحاصلة في سوريا. وضع كل هذه الأجواء على الورق، وازن في ما بينها واختار المضيّ في خيار الهجوم على إيران مقابل حياد ظاهري إزاء أحداث سوريا.