غزة | تسعى المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية إلى الهروب من فكرة التعايش مع الواقع الميداني القائم في الضفة الغربية المحتلّة، والذي فرضته خلايا المقاومة المسلّحة خلال العامَين الماضيَين، من خلال مضاعفة الثمن المفروض على الجهات التي تموّل وتخطّط وتطوّر وترسل المقاومين لتنفيذ العمليات الفدائية هناك، إذ عزّزت موجة الهجمات الأخيرة، في تل أبيب وحوارة وأخيراً في الخليل، القناعة الجمعية في حكومة الاحتلال بأن تقديرات الموقف، والإجراءات الميدانية التي تليها، عبر ملاحقة المنفّذين واعتقالهم أو اغتيالهم، ثمّ الانتقام من عائلاتهم بهدم منازلهم واعتقال عدد من أبنائها، لم يفضِ إلى أيّ نتائج ذات قيمة؛ وبناءً عليه، تطلق المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية، هذه الأيام، عاصفة من الحرب النفسية، مرفقةً بجهد استخباري هو الأكبر من نوعه منذ نهاية معركة «ثأر الأحرار» في أيار الماضي، ويتخلّلها التلويح بأن خياراتها عابرة لحدود الضفة.وفيما تتّجه الأنظار إلى قيادات فصائل المقاومة المقيمين في لبنان، وتحديداً الأمين العام لحركة «الجهاد الإسلامي» زياد النخالة، ونائب رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» صالح العاروري، بوصفهما «بطلَي» المشهد «الضفاوي» الحالي، تحُول جملة من التوازنات الإقليمية، ذات العلاقة بمعادلة حماية المقاومين المقيمين على الأراضي اللبنانية، التي فرضها الأمين العام لـ«حزب الله»، السيد حسن نصر الله، دون ذلك، لتبقى الحلقة الأضعف في كلّ المشهد الحالي، قيادات فصائل المقاومة في قطاع غزة. هنا، تحضر إمكانية إعادة إنتاج سيناريو اغتيال قادة «سرايا القدس»، الذراع العسكرية لـ«الجهاد»، في آب 2022 وفي أيار 2023، حيث جرت تصفية سبعة من أبرز قيادات المجلس العسكري لـ«السرايا»، بهدف إرغام «الجهاد» على كفّ يدها عن الضفة. ولمّا صار واضحاً أن تأثير خسارة القيادات الوازنة، لم يطاول أفكار «الجهاد» أو توجّهاتها، بل زاد من زخم المقاومة التي تمدّدت من مخيم جنين شمالاً، حتى مدينة الخليل جنوباً، ورافقه دخول متزايد لا يقلّ تأثيراً لحركة «حماس» إلى المشهد، نجحت فيه من خلال تكتيكها المغاير في توجيه ضربات موجعة ومركّزة حصدت مزيداً من القتلى في صفوف المستوطنين، اتجه وزير الجيش الإسرائيلي، ومن خلفه جيش من المحللين العسكريين الإسرائيليين، إلى التلويح بنيّة إسرائيل توجيه ضربة عسكرية أو أمنية إلى قيادات «كتائب القسام» (الذراع العسكرية لـ«حماس») المسؤولين عن ملفّ الضفة في غزة.
تعتقد أوساط المقاومة أن أيّ ثمن يُدفع في سبيل المحافظة على سير قطارها في الضفة هو ثمن مستحَقّ ومقبول


في أوساط المقاومة، تسود قناعة بأن الأسير «الضفاوي» المحرَّر، طارق عز الدين، الذي اغتيل في بداية معركة «ثأر الأحرار»، برفقة كلٍّ من خليل البهتيني وجهاد غنام، كان كلمة السرّ، وأن استمرار العمل المقاوم في الضفة لا بدّ من أن ترافقه خسارات وأثمان مماثلة قد يدفعها من يقومون بدور الشهيد عز الدين نفسه في «القسام» انطلاقاً من غزة. ولمّا كان العمل في بيئة شديدة التعقيد ومتعدّدة الثقافات والتركيب الأمني، مثل قرى الضفة ومدنها، بحاجة إلى من يعرف «شِعابها» جيداً، ولمّا كان أيضاً أكثر «أهل مكة» هم من الأسرى المحرَّرين في صفقة «وفاء الأحرار» (2011)، المبعدين من الضفة إلى القطاع، فإن التهديدات الإسرائيلية تكتسب أبعاداً أكثر جدّية، محيلةً مباشرةً إلى سيناريوَين اثنين:
الأول: تصفية مجموعة جديدة من قادة «سرايا القدس»، وحصر المعركة للمرة الرابعة مع «الجهاد».
الثاني: اغتيال قائد من «كتائب القسام»، ذي صلة مباشرة بالتخطيط لعمليات الضفة.
في كلا الاحتمالين، يحضر في العقل الإسرائيلي تساؤل مهمّ عن طبيعة الردّ على أيّ عملية اغتيال من غزة، وما إذا كان بوسع جيش الاحتلال أن يستفرد مجدّداً بـ«الجهاد»، فيما تُواصل «حماس» الاحتفاظ بدورها المؤازر معنوياً أو لوجستياً. الأكيد أن تَكرّر هذا السيناريو هو ما يتمنّاه الإسرائيليون، لكن الأكيد أيضاً أن إمرار مخطّط كهذا دونه رغبة السواد «الحمساوي» الأعظم في الدخول في معركة كبرى، لوضع حدّ أمام استسهال الإسرائيلي استباحة المقاومة في القطاع، وإغلاق ملفّ الاغتيالات بشكل ناجز. مع ذلك، يَجدر التنبيه، هنا، إلى أن إحدى نتائج عدم دخول «القسام» المباشر على خطّ الردّ على عمليّتَي اغتيال قادة «السرايا»، كان الاستثمار في بناء خلايا المقاومة «القسامية» في الضفة، والتي تركت بصمات واضحة خلال الأشهر الأخيرة، في مقابل المحافظة على مجموعة من المكتسبات المعيشية في القطاع، والتي لا بدّ منها لتعزيز الحاضنة الشعبية للمقاومة، ومعالجة آثار ثمانية عشر عاماً من الحصار، تخلّلتها 4 حروب وأكثر من ثلاثين معركة ما بين الحروب.
إزاء ما تَقدّم، وبالنظر إلى أن جيش الاحتلال معنيّ بالمحافظة على واقع الهدوء الميداني في غزة، المستمرّ منذ انتهاء معركة «سيف القدس» في 2021، والذي سمح في سبيل إدامته لنحو 20 ألف عامل «غزّاوي» بالعمل في الداخل المحتلّ، وقبِل استمرار المنحة القطرية على مضض، فإن المرجّح هو تنفيذ عملية اغتيال أمنية، وليست عسكرية، على شاكلة اغتيال أحد القادة «الضفاوييين» المبعدين إلى القطاع على يد مجموعة من العملاء في عام 2017. وفي المقابل، تعتقد أوساط المقاومة أن أيّ ثمن يُدفع في سبيل المحافظة على سير قطارها في الضفة، سواء في غزة أو في الخارج، هو ثمن مستحَقّ ومقبول، ولن يقود بأيّ شكل من الأشكال إلى الرجوع خطوة واحدة إلى الوراء.