فرض تصاعد عمليات المقاومة في الضفة الغربية المحتلّة أولويات جديدة على حكومة بنيامين نتنياهو، التي اصطدمت مجدّداً بحقيقة أن سياساتها العمليّاتية لم تنجح في توفير الأمن للمستوطنين وجنود الاحتلال. وممّا يُفاقم من قلقها الآن، أن هذا التصاعد يهدّد مخطّطاتها المستقبلية للضفة، فيما يساهم في التأسيس لمعادلة جديدة في الداخل الفلسطيني، تساهم في تعميق مأزقها. على خلفية ذلك، فوّض المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغّر، بعد اجتماع استمرّ نحو ثلاث ساعات، نتنياهو، ووزير أمنه، يوآف غلانت، اتّخاذ خطوات تستهدف المقاومين الفلسطينيين و«مرسِليهم»، وفق ما جاء في بيان صادر عن مكتب رئيس الحكومة. خطواتٌ يشي الحديث عنها بارتقاء عدواني متوقّع في مواجهة العمليات الفدائية، التي أسفرت حتى الآن عن سقوط 34 قتيلاً إسرائيلياً خلال الأشهر الثمانية الأولى من السنة الجارية، التي قد تكون الأشدّ على الكيان منذ الانتفاضة الثانية، فيما تتصاعد مؤشّرات الخطورة باتّساع نطاق المواجهة إلى أبعد من شمال الضفة، الذي ينطلق منه بحسب تقارير العدو نحو 80% من منفّذي العمليات. وإذ تأتي هذه الأخيرة أيضاً ردّاً على الهجمات الإرهابية التي تستهدف القرى الفلسطينية، ويرى فيها جناح في حكومة نتنياهو على أنها جزء من عملية تدفيع الثمن للبيئة الفلسطينية الحاضنة للمقاومة، وأن تراكمها قد يؤدي إلى إنتاج معادلة ردع لم ينجح الجيش في تحقيقها حتى الآن، فإن آخرين في المنظومة الأمنية يرون في تلك الهجمات عاملاً تفجيرياً إضافياً يساهم في تغذية روح المقاومة بدلاً من كسر إرادتها. في ظلّ هذه الأوضاع، تتراكم الضغوط على حكومة نتنياهو التي بالغ أطرافها في انتقاد أداء الحكومة السابقة (بينت - لابيد) في مواجهة المقاومة في الضفة، فيما هم عاجزون عن تحقيق الشعور بالأمن الذين لطالما تباهوا بأنهم الأقدر على تحقيقه، ويتعاظم الانقسام الداخلي بينهم وبين معارضيهم، متسبّباً بتصدّعات يُحمَّل نتنياهو مسؤوليتها. مع ذلك، لا يبدو أن أمام الحكومة الحالية الكثير من الخيارات على الساحة الفلسطينية، حيث ستجد نفسها وسط حقول ألغام تجعلها مضطرّة لالتزام معادلات تحول دون تفجيرها، فيما يحير الجيش في اختيار السياسة العملياتية الأنجع والأقلّ ضرراً: فهو إن وسَّع نطاق ردوده بما يؤدّي إلى «الإضرار الواسع بنسيج الحياة والاقتصاد الفلسطينيَين»، فهو بذلك سيدفع بشكل أو بآخر نحو توسّع نطاق المقاومة؛ وإنْ التزم ببعض الضوابط التي تتّصل بالبيئة السكانية الفلسطينية، فهو يُكسب المقاومة عامل قوّة، ويجعل هامشها أوسع في المبادرة، مع التذكير بأن كلا الخيارَين جُرّبا وفشلا في كبح المقاومة أو ردعها.
تعذّر التسليم بالاستنزاف الأمني ومقاومة الضغوط الناتجة منه، قد يدفع العدو إلى تقديرات وخيارات خاطئة


من هنا، لا يجد العدو بدّاً من العودة إلى سياسة الاغتيالات التي تستهدف كوادر وقادة في فصائل المقاومة، إلى جانب عمليات الاستهداف التقليدية التي ينفّذها في الضفة، بعدما استنفد خياراته الدفاعية و«الإحباطية» هناك، حيث ينشر جنوده وقواته على الطرقات وحول القرى والمدن الفلسطينية بشكل دائم. كذلك، بدأ الاحتلال حملة اعتقالات واسعة في الضفة، في ما يُعدّ اجتراراً لسياسة متقادمة يرى أنها يمكن أن تحدّ من المسار التصاعدي للمقاومة على الأقلّ، علماً أن التجربة أثبتت أن هذا الخيار لم ينجح هو الآخر في توفير الأمن للمستوطنين والجنود. أمّا خيار الاغتيالات، والذي يراهن العدو على إسهامه في لجم العمليات وتحقيق الهدوء لفترة زمنية مُحدّدة، فإن التجربة تقول إنه لم ينجح في إيقاف المقاومة، وإنْ كانت له نتائجه المؤثّرة على أرض الواقع بنسبة أو بأخرى، فضلاً عن أن تفعيله في المرحلة الحالية ينطوي على مخاطر نشوب مواجهة عسكرية، كونه سيستدرج ردود فعل مباشرة ستضع قيادة العدو أمام تحدّي الردّ عليها أيضاً، مع التنبيه هنا إلى أيّ مواجهة عسكرية مع لبنان تحديداً ستختلف في حجمها ونتائجها عن نظيرتها مع غزة.
في كلّ الحالات، قد يتسبّب العدو، بلجوئه إلى هذا الخيار، بتوسيع نطاق المواجهة إلى الداخل الإسرائيلي عبر الردّ الصاروخي المتوقّع، فيما قد تعمد المقاومة إلى تنفيذ عمليات داخل أراضي الـ48، وهو ما يعني تفاقم حالة التوتّر الأمني، ووصولها إلى العمق الإسرائيلي بدلاً من محاصرتها. ولذلك، قد يلجأ العدو إلى عمليات أمنية، تحمل بصمة خفيفة، بهدف تجنّب سيناريو الردّ الذي يؤدي إلى تصعيد أمني، لكن هذه العمليات معرّضة بدورها للإفشال المسبق، وحتى نجاحها من غير المضمون أن يؤدّي إلى ردع المقاومة عن مواصلة ضرباتها. أمّا الحديث المتزايد عن مسؤولية إيران عن العمليات، فهو ينطلق، في جانب منه، من وقائع فعلية، بالنظر إلى الدعم الإيراني المستمرّ للمقاومة في فلسطين على الصعد كافة: المادي والعسكري والسياسي والإعلامي، ولكنه في هذه المرحلة تحديداً يستهدف التخفّف من الضغوط الداخلية، عبر تحميل «دول عظمى إقليمية» مسؤولية الهجمات، وبالتالي تبرير الفشل حيالها.
على رغم كلّ ما تَقدّم، فإن تعذّر التسليم بالاستنزاف الأمني ومقاومة الضغوط الناتجة منه، قد يدفع العدو إلى تقديرات وخيارات خاطئة، وهو ما يفرض على قادة فصائل المقاومة مزيداً من الحذر والإجراءات التي يمكن أن تنجح في سلب الاحتلال أهدافاً يأمل في أن يتمكّن من ضربها.